باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الخامس من مارس سنة 2022م، الموافق الثاني من شعبان سنة 1443 ه.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمى إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: محمد خيرى طه النجار ورجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وعلاء الدين أحمد السيد والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز نواب رئيس المحكمة
وحضور السيد المستشار / عوض عبدالحميد عبدالله رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / محمد ناجى عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 269 لسنة 31 قضائية “دستورية”.
المقامة من
رئيس مجلس إدارة شركة أكسون موبيل مصر
ضد
1- رئيس مجلس الوزراء
2- أمين عام صندوق تمويل التدريب والتأهيل
3- وزير القوى العاملة
—————–
” الإجراءات “
بتاريخ الحادي والعشرين من ديسمبر سنة 2009، أودعت الشركة المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبة الحكم بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (134) من قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، والمادة الثامنة من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1362 لسنة 2005 بتشكيل ونظام العمل بمجلس إدارة صندوق التدريب والتأهيل، المعدل لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1543 لسنة 2003.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت في ختامها الحكم برفض الدعوى. كما قدم المدعى عليه الثاني مذكرة، طلب فيها الحكم، أصليًا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها. ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
————–
” المحكمة “
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – في أن الشركة المدعية كانت قد أقامت الدعوى رقم 8695 لسنة 2009 مدني كلي، أمام محكمة شمال القاهرة الابتدائية، ضد المدعى عليهما الثاني والثالث، طالبة الحكم ببراءة ذمتها من سداد نسبة 1% من صافى أرباحها السنوية، المفروضة بمقتضى نص البند الأول من المادة (134) من قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، والمادة الثامنة من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1362 لسنة 2005، المعدل لقراره رقم 1543 لسنة 2003، لصالح صندوق تمويل التدريب والتأهيل، المنشأ بموجب أحكام القانون السالف بيانه. وإبان نظر الدعوى، دفعت الشركة بعدم دستورية هذين النصين، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت للشركة المدعية بإقامة الدعوى الدستورية، فأقامت الدعوى المعروضة.
وحيث إن قانون العمل الصادر بالقانون رقم 12 لسنة 2003، أفرد الكتاب الثالث منه للتوجيه والتدريب المهني، وخصص الباب الأول منه لتنظيم هذا التدريب، ناصًّا في المادة (132) منه على أن “يشكل المجلس الأعلى لتنمية الموارد البشرية، ويصدر بتحديد اختصاصه ونظام العمل به، قرار من رئيس الجمهورية، ويتولى رسم السياسة القومية لتخطيط التنمية البشرية، ووضع برنامج قومي لتنميتها، واستخدامها الاستخدام الأمثل بالتنسيق مع الوزارات والجهات المختصة”.
ونص في المادة (133) منه على أن “ينشأ صندوق لتمويل التدريب والتأهيل تكون له الشخصية الاعتبارية العامة، ويتبع الوزير المختص، وذلك لتمويل إنشاء وتطوير وتحديث مراكز وبرامج التدريب التي تستهدف المواءمة بين احتياجات سوق العمل المحلى والخاص ……”. ونصت الفقرة الأولى من المادة (134) منه على أن “تتكون موارد الصندوق المشار إليه في المادة السابقة من:1- 1% من صافى أرباح المنشآت الخاضعة لأحكام هذا القانون، التي يزيد عدد العاملين بها على عشرة عمال ……”. كما نصت المادة الثامنة من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1362 لسنة 2005، المعدل لقراره رقم 1543 لسنة 2003، على أن “تُسدد المنشآت الخاضعة لأحكام قانون العمل المشار إليه، والتي يزيد عدد العاملين بها على عشرة عمال، نسبة مقدارها (1%) من صافى الأرباح السنوية، بموجب شيكات باسم (صندوق تمويل التدريب والتأهيل) خلال الشهر التالي لاعتماد الميزانية السنوية، مرفقًا بها صورة من الميزانية المعتمدة”.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المادة (30) من قانونها الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، إذ نصت على أنه “يجب أن يتضمن القرار الصادر بالإحالة إلى المحكمة الدستورية العليا أو صحيفة الدعوى المرفوعة إليها وفقًا لحكم المادة السابقة – (29) من القانون ذاته – بيان النص التشريعي المطعون بعدم دستوريته، والنص الدستوري المدعى بمخالفته، وأوجه المخالفة”، فإن مؤدى ذلك أن المشرع أوجب لقبول الدعوى الدستورية أن يتضمن قرار الإحالة أو صحيفة الدعوى بيانًا للنص التشريعي المطعون فيه بعدم الدستورية، وبيانًا للنص الدستوري المدعى مخالفته، وأوجه هذه المخالفة، باعتبار أن تلك البيانات الجوهرية هي التي تُنبئ عن جدية الدعوى، وبها يتحدد موضوعها، حتى يتاح لذوى الشأن – ومن بينهم الحكومة التي تعتبر خصمًا في الدعوى الدستورية بحكم القانون – أن يتبينوا كافة جوانب المسألة الدستورية المعروضة بما ينفى التجهيل عنها.
وحيث إن نص المادة الثامنة من قرار رئيس مجلس الوزراء السالف الإشارة إليه، تضمن حكمين، أولهما: النص في صدر المادة على التكليف المالي الذي قرره قانون العمل المشار إليه بمقتضى نص البند رقم (1) من المادة (134) منه، وبموجبه تلتزم المنشآت الخاضعة لأحكام هذا القانون، والتي يزيد عدد العاملين بها على عشرة عمال، بسداد نسبة 1% من صافى أرباحها لصندوق تمويل التدريب والتأهيل، ومؤكدًا على التزام تلك المنشآت بسداده، وبذات فئته المتقدمة. وثانيهما: ورد بعجز نص تلك المادة، ويتعلق بطريقة سداد هذه الفريضة المالية وميعاد السداد والمستندات الواجب تقديمها، بحيث يتم السداد بموجب شيكات باسم صندوق تمويل التدريب والتأهيل، خلال الشهر التالي لاعتماد الميزانية السنوية، مرفقًا بها صورة من الميزانية المعتمدة. لما كان ذلك، وكانت مناعي الشركة المدعية قد انصبت على أصل الالتزام بسداد نسبة 1% من صافى الأرباح – الوارد في صدر هذه المادة- دون أن توجه أي مناع لباقي الأحكام التي تضمنها عجز هذا النص، ومن ثم فإن صحيفة الدعوى تكون قد خلت من بيان النصوص الدستورية المدعى بمخالفة هذه الأحكام لها، وأوجه تلك المخالفة، حال كونها من البيانات الجوهرية التي أوجب نص المادة (30) من قانون المحكمة الدستورية العليا المشار إليه، تضمينها صحيفة الدعوى، الأمر الذي يتعين معه القضاء بعدم قبول الدعوى بالنسبة لهذا الشق منها.
وحيث إنه في خصوص الطعن على نص البند (1) من المادة (134) من قانون العمل المشار إليه، فقد سبق للمحكمة الدستورية العليا أن حسمت المسألة الدستورية بالنسبة لهذا النص، بموجب حكمها الصادر في الدعوى رقم 114 لسنة 27 قضائية “دستورية”، بجلسة 6 /11 /2021، التي قضت فيها، برفض الدعوى. وقد نُشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية بالعدد 45 تابع (أ) بتاريخ 11/11/2021. وكان مقتضى نص المادة (195) من الدستور، ونصى المادتين (48، 49) من قانون هذه المحكمة الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979، أن تكون أحكام هذه المحكمة والقرارات الصادرة منها ملزمة للكافة، وجميع سلطات الدولة، وتكون لها حجية مطلقة بالنسبة لهم، باعتبارها قولاً فصلاً لا يقبل تأويلاً ولا تعقيبًا من أي جهة كانت، وهي حجية تحول بذاتها دون المجادلة فيها، أو إعادة طرحه عليها من جديد لمراجعته. الأمر الذي تكون معه الدعوى المعروضة – في هذا الشق – قمينة بعدم القبول.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرط المصلحة الشخصية المباشرة يتغيا أن تفصل المحكمة الدستورية العليا في الخصومة الدستورية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية، وهو كذلك يقيد تدخلها في هذه الخصومة فلا تفصل في غير المسائل الدستورية التي يؤثر الحكم فيها على النزاع الموضوعي. متى كان ذلك، وكان التكليف بسداد نسبة 1% من صافي أرباح المنشآت الخاضعة لأحكام قانون العمل المشار إليه، وإن تضمنه نص المادة (134/1) من هذا القانون، وردد صدر نص المادة الثامنة من قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1362 لسنة 2005، المعدل لقراره رقم 1543 لسنة 2003، الحكم ذاته، فإن مصلحة الشركة المدعية تبقى قائمة في الطعن على صدر نص المادة الثامنة السالفة الذكر، باعتبارها أحد مصادر الالتزام بهذا التكليف المالي، وأحد عناصر التنظيم القانوني الحاكم له. ولا ينال منها سبق قضاء المحكمة الدستورية العليا في دستورية نص المادة (134/1) من قانون العمل المشار إليه، كما سلف البيان. ويتحدد نطاق الدعوى في صدر هذا النص، الذي يتضمن إلزام تلك المنشآت بسداد نسبة 1% المار ذكرها، لما للقضاء في دستوريته من أثر وانعكاس على الدعوى الموضوعية، والطلبات المطروحة بها، وقضاء محكمة الموضوع فيها، دون سائر ما تضمنه ذلك النص من أحكام أخرى.
وحيث إن حقيقة مناعي الشركة المدعية على النص المطعون عليه، في حدود نطاقه المتقدم، إنما تنصبت على مخالفته لأحكام المواد (4 و8 و32 و34 و38 و40 و61 و115 و116 و119 و120) من دستور 1971 – التي تقابل أحكام المواد (4 و9 و20 و27 و33 و35 و36 و38 و53 و124) من الدستور القائم الصادر سنة 2014 – بقالة تعارضه مع العدالة الضريبية، بفرضه رسمًا دون أن تقابله خدمة، ليصير معونة مالية رصدتها الدولة لذلك الصندوق بالمخالفة لضوابط الإنفاق العام التي فرضها الدستور، فضلاً عن تعارضه مع مبدأ العدالة الضريبية في توزيع الأعباء والتكاليف العامة، بعد أن أنشأ ازدواجًا في الأعباء المالية التي تتحمل بها الشركة، إعمالاً لنصى المادتين (47، 48) من قانون الضريبة على الدخل الصادر بالقانون رقم 91 لسنة 2005، إلى جانب ما يقره النص المطعون فيه، على الرغم من أن الصندوق المذكور، لا يقدم أي خدمات لتدريب العاملين لدى الشركة المدعية. ومن جانب آخر، فإن نسبة ال 1% الواردة في النص المطعون عليه لا تلتزم بها المنشآت التي لا يزيد عدد العاملين بها عن عشرة عمال، وذلك دون مسوغ، مما يخل بمبدأي تكافؤ الفرص والمساواة، خاصة أن الشركات الملتزمة بهذه النسبة ستقوم بتحميلها على سعر منتجاتها، الأمر الذي يؤثر سلبًا على فرص منافستها لنظيرتها التي تنتجها الشركات غير الملتزمة بأداء هذه النسبة. كما ينتقص ذلك النص من صافى أرباح الشركة الملتزمة بأداء هذه النسبة، بما ينال من الحماية المقررة للملكية الخاصة، ويزيد من وطأة الضريبة على المخاطبين بأحكامها.
وحيث إن من المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن الرقابة الدستورية على القوانين من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمنها الدستور تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، باعتبار أن نصوص هذا الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهتها الشركة المدعية للنص المطعون فيه – في النطاق السالف تحديده – تندرج تحت المطاعن الموضوعية، التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعى لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي. ومن ثم، تباشر هذه المحكمة رقابتها القضائية على دستورية النص المطعون فيه – الذي ما زال ساريًا ومعمولاً بأحكامه – من خلال أحكام الدستور القائم الصادر سنة 2014.
وحيث إن الدستور القائم، في إطار تحديده للمقومات الاجتماعية والاقتصادية للدولة، قد استشعر أهمية استمرار تدريب العاملين لضمان توافق أدائهم مع التطورات المستحدثة في مختلف المجالات، فألقى على عاتق الدولة، في المادة (20) منه، التزامًا بتشجيع التعليم الفني والتقني والتدريب المهني وتطويره، والتوسع في أنواعه كافة، وفقًا لمعايير الجودة العالمية، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل. ومن ثم، فقد صار تنظيم التدريب المهني للعاملين وتطويره مرتكزًا جوهريًا، وضرورة لازمة، تعكس أحد أهداف النظام الاقتصادي الذي يرنو، على ما نصت عليه المادة (27) من الدستور، إلى تحقيق الرخاء في البلاد من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، بما يكفل زيادة معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشةِ، وزيادة فرص العمل، وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر.
وحيث إن من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدستور وإن قرن العدل بكثير من النصوص التي تضمنها، وخلا في الوقت ذاته من كل تحديد لمعناه، فإن مفهوم العدل – سواء بمبناه أو أبعاده – يتعين أن يكون محددًا من منظور اجتماعي، باعتبار أن العدل يتغيا التعبير عن تلك القيم الاجتماعية التي لا تنفصل الجماعة في حركتها عنها، والتى تبلور مقاييسها في شأن ما يعتبر حقًا لديها، فلا يكون العدل مفهومًا مطلقًا باطراد، بل مرنًا ومتغيرًا وفقًا لمعايير الضمير الاجتماعي ومستوياتها، وهو بذلك لا يعدو أن يكون نهجًا متواصلاً منبسطًا على أشكال من الحياة تتعدد ألوانها، وازنًا بالقسط تلك الأعباء التي يفرضها المشرع على المواطنين، فلا تكون وطأتها على بعضهم عدوانًا، بل تطبيقها فيما بينهم إنصافًا، وإلا كان القانون منهيًا للتوافق في مجال تنفيذه، وغدا إلغاؤه لازمًا.
وحيث إن الدستور الحالي قد حرص في المادة (4) منه، على النص على مبدأ تكافؤ الفرص، باعتباره إلى جانب مبدأ العدل أساسًا لبناء المجتمع وصيانة وحدته الوطنية، ومن أجل ذلك جعل الدستور بمقتضى نص المادة (9) منه تحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز، التزامًا دستوريًا على عاتق الدولة، لا تستطيع منه فكاكًا. وقوام هذا المبدأ – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن الفرص التي كفلها الدستور للمواطنين فيما بينهم تفترض تكافؤها، وتدخل الدولة إيجابيًا لضمان عدالة توزيعها بين من يتزاحمون عليها، وضرورة ترتيبهم بالتالي فيما بينهم على ضوء قواعد يمليها التبصر والاعتدال، وهو ما يعنى أن موضوعية شروط النفاذ إليها، مناطها تلك العلاقة المنطقية التي تربطها بأهدافها، فلا تنفصل عنها.
وحيث إن الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون، الذي كفله الدستور في المادتين (4 و53) منه – على ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة – يتحقق بأي عمل يهدر الحماية القانونية المتكافئة تتخذه الدولة سواء من خلال سلطتها التشريعية أو عن طريق سلطتها التنفيذية، بما مؤداه أن أيًّا من هاتين السلطتين لا يجوز لها أن تفرض تغايرًا في المعاملة ما لم يكن مبررًا بفروق منطقية يمكن ربطها عقلاً بالأغراض التي يتوخاها العمل التشريعي الصادر عنها؛ وليس بصحيح أن كل تقسيم تشريعي يعتبر تصنيفًا منافيًا لمبدأ المساواة، بل يتعين دومًا أن ينظر إلى النصوص القانونية باعتبارها وسائل حددها المشرع لتحقيق أغراض يبتغيها، فلا يستقيم إعمال مبدأ المساواة أمام القانون إلا على ضوء مشروعيتها، واتصال هذه الوسائل منطقيًا بها، ولا يتصور بالتالي أن يكون تقييم التقسيم التشريعي منفصلاً عن الأغراض التي يتغياها المشرع، بل يرتبط جواز هذا التقسيم بالقيود التي يفرضها الدستور على هذه الأغراض، وبوجود حد أدنى من التوافق بينها وبين طرائق تحقيقها، ويستحيل بالتالي أن يكون التقدير الموضوعي لمعقولية التقسيم التشريعي منفصلاً كليًّا عن الأغراض النهائية للتشريع.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد استقام على أن الملكية الخاصة، في إطار النظم الوضعية التي تزاوج بين الفردية وتدخل الدولة، لم تعد حقًّا مطلقًا، ولا هي عصية على التنظيم التشريعي، وليس لها من الحماية ما يجاوز الانتفاع المشروع بعناصرها. ومن ثم، ساغ تحميلها بالقيود التي تتطلبها وظيفتها الاجتماعية، وهى وظيفة لا يتحدد نطاقها من فراغ، ولا تفرض نفسها تحكمًا، بل تمليها طبيعة الأموال محل الملكية، والأغراض التي ينبغي رصدها عليها، محددة على ضوء واقع اجتماعي معين، في بيئة بذاتها، لها مقوماتها وتوجهاتها. وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مؤدى النص في عجز الفقرة الرابعة من المادة (38) من الدستور من أن “يحدد القانون طرق وأدوات تحصيل الضرائب، والرسوم، وأى متحصلات سيادية أخرى، وما يودع منها في الخزانة العامة للدولة”، أن الدستور وإن كان قد أوجب أصلاً عامًا يقتضى أن تصب حصيلة الضرائب العامة وغيرها من الإيرادات العامة للدولة في الخزانة العامة للدولة، لتتولى تحديد مصارفها تحت رقابة المؤسسة التشريعية، بقصد تحقيق الصالح العام، على ما نصت عليه المادة (124) من الدستور، فإن ما يستفاد من هذا النص بدلالة المخالفة – على ما أفصحت عنه مناقشات لجنة الخمسين التي أعدت مشروع الدستور – أن الدستور قد أجاز للمشرع، على سبيل الاستثناء، وفى أضيق الحدود، أن يحدد ما لا يودع من حصيلة الموارد المالية في الخزانة العامة، ليكون إعمال هذه الرخصة – بحسبانها استثناءً من الأصل العام – أداته القانون، وفى حدود تنضبط بضوابط الدستور، فلا يصح هذا التخصيص إلا إذا كان الدستور ذاته قد نص في صلبه على تكليف تشريعي صريح ذى طبيعة مالية، قدَّر لزوم وفاء المشرع به، وأن يتصل هذا التكليف بمصلحة جوهرية أولاها الدستور عناية خاصة، وجعل منها أحد أهدافه، وأن يقدر استنادًا إلى أسباب جدية، صعوبة تخصيص هذا المورد من الموازنة العامة في ظل أعبائها. فمتى استقام الأمر على هذا النحو، جاز للمشرع تخصيص أحد الموارد العامة إلى هذا المصرف تدبيرًا له، إعمالاً لأحكام الدستور، وتفعيلاً لمراميه، سواء كان ذلك التخصيص بطريق مباشر لهذا المصرف، أو بطريق غير مباشر، من خلال إعفائه من أداء أحد الموارد العامة.
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان النص المطعون فيه، يُعد أحد عناصر التنظيم القانوني الذي يهدف إلى تنظيم وتطوير التدريب المهني للعاملين وفقًا لمعايير الجودة العالمية، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، باعتبار ذلك هو أحد الالتزامات الجوهرية التي ألقاها الدستور، في نص المادة (20) منه، على عاتق الدولة، ضمانًا للوصول إلى ما يستهدفه النظام الاقتصادي من تحقيق الرخاء في البلاد، من خلال التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، على ما نصت عليه المادة (27) منه، وبما يضمن الحياة الكريمة للمواطنين؛ وكان ذلك هو محور اهتمام الدستور ومبتغاه، بعد تحديده للهدف من بلوغه، وتخويله المشرع التدخل بتنظيمه بما يحقق العدالة الاجتماعية والخير العام للمواطنين. وكان النص المطعون عليه – في تأكيده على التكليف القانوني الوارد بنص البند (1) من المادة (134) من قانون العمل المشار إليه، بسداد نسبة 1% من صافى الأرباح السنوية للمنشآت الخاضعة لأحكام ذلك القانون – قد سمح بتدبير مورد مالي لصندوق تمويل التدريب والتأهيل الذي أنشأه، ليضطلع هذا الصندوق بالمهام الموكلة إليه في مجالات إنشاء وتطوير وتحديث مراكز وبرامج التدريب، بما يسمح لها بتوفير احتياجات سوق العمل المحلى والخاص في الجهات الخاضعة لقانون العمل، من العمالة الماهرة المدربة، ملبيًّا في ذلك للالتزام الذي عهد به الدستور في المادة (20) منه إلى الدولة في هذا المجال، كما سعى من وراء ذلك إلى تشجيع المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، تنفيذًا للتكليف الذي فرضه الدستور على الدولة بمقتضى نص المادة (28) منه، ليضحى النص المطعون فيه بحرصه على التأكيد على إلزام المنشآت التي يزيد عدد العاملين بها على عشرة عمال، الخاضعة لأحكام قانون العمل المشار إليه، بسداد نسبة 1% من صافى أرباحها، وتخصيصها لهذا الصندوق، مقدرًا في ذلك القدرة التكليفية لهذه المنشآت، ومستبعدًا من هذا الإلزام المنشآت التي لا تحقق أرباحًا، وتلك التي لا يزيد عدد العاملين بها عن عشرة عمال، إنما يُعد، باعتباره أحد عناصر التنظيم الحاكم لهذا التكليف المالى، الوسيلة المنضبطة التي اختارها المشرع، للوصول إلى الغايات والأهداف التي حددها القانون، ورصدها الدستور في النصوص المشار إليها، والكافلة لتحقيقها، بما لا يكون متضمنًا معه تمييزًا تحكميًا في مجال تحديد المشروعات التي تتحمل بهذه الفريضة المالية، بل يستند إلى أسس موضوعية تبرره، ليس فيها مخالفة لمبدأي تكافؤ الفرص والمساواة، اللذين كفلهما الدستور في المواد (4 و9 و53) منه.
وحيث إن المشرع قد راعى في تقريره للتكليف المالي الذي أكد عليه النص اللائحي المطعون فيه، تحقيق مصلحة جوهرية عناها، وأولاها اهتمامه؛ وقد جاء هذا التكليف في حدود معتدلة، دون شطط في تقديره، ودون مساس بأصول هذه المنشآت وأملاكها، بل إشراكًا لهذه المنشآت في منظومة تنمية عمليات التدريب وتنمية الموارد البشرية على المستوى القومي، على النحو الذي تتحقق معه أهداف النظام الاقتصادي للدولة من تحقيق الرخاء والعدالة الاجتماعية، ورفع معدل النمو الحقيقي للاقتصاد القومي، ورفع مستوى المعيشة، وزيادة فرص العمل، وتقليل معدلات البطالة، والقضاء على الفقر. متى كان ذلك، وكان تحقيق العدل في مجال علاقات العمل والنشاط الاقتصادي يتطلب مشاركة حقيقية من جانب أصحاب الأعمال والمنشآت للارتقاء بمستوى العاملين لديهم، وحسن تأهيلهم، بما يدفع بعجلة العمل إلى الأمام، وينهض بأحوال العمال في حاضرهم ومستقبلهم، وينعكس أثره بالضرورة على جودة الإنتاج والخدمات التي تقدمها المنشأة، ويسهم بالتالي في تنمية الاقتصاد الوطني، دون تحميل المنشآت الاقتصادية بأعباء إضافية تثقل كاهلها، أو تؤثر على قدرتها التنافسية، أو يتضمن ازدواجية في الأعباء المالية التي تتحمل بها المنشآت الخاضعة لأحكام القانون المشار إليه، ويحقق في الوقت ذاته التوزيع العادل للأعباء المالية التي تتطلبها المشاركة الفاعلة لهذه المنشآت مع الدولة في الوفاء بمتطلبات التنمية الاقتصادية بمختلف محاورها، وعلى الأخص ما يتصل منها بخطط التدريب والتأهيل وتنمية الموارد البشرية، وذلك كله في إطار المسئولية الاجتماعية للقطاع الخاص في خدمة الاقتصاد الوطني والمجتمع، التي حرص الدستور على توكيدها في المادة (36) منه، وألزم الدولة بموجبها بالعمل على تحفيز هذا القطاع على أدائها، فوق كونه يمثل أحد مظاهر الوظيفة الاجتماعية التي تضطلع بها الملكية الخاصة في خدمة المجتمع. ومن ثم، فقد جاء مسلك المشرع في النص المطعون فيه متفقًا وأحكام الدستور، وبما لا خروج فيه على قواعد العدالة الاجتماعية، والحماية المقررة لحق الملكية المنصوص عليها في المواد (27 و33 و35 و36) منه.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يتعارض مع الدستور من أى وجه آخر.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت الشركة المدعية المصروفات، ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
أمين السر رئيس المحكمة
صدر هذا الحكم من الهيئة المبينة بصدره، أما السيد المستشار محمد خيرى طه النجار الذي سمع المرافعة وحضر المداولة ووقع على مسودة الحكم فقد جلس بدلاً منه عند تلاوته السيد المستشار محمود محمد غنيم.