باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الحادي عشر من فبراير سنة 2023م، الموافق العشرين من رجب سنة 1444 هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة وعضوية السادة المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة .
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عماد طارق البشري رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ محمـد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 86 لسنة 34 قضائية دستورية
المقامة من
ثابت شفيق بطرس عبدالملك
ضد
1- رئيس مجلـــس الـوزراء
2- وزيــر العــدل
3- رئيس الطائفـة الإنجيلية
4- ماجدة نجيب يوسف سمعان
—————–
” الإجراءات “
بتاريخ الحادي والعشرين من مايو سنة 2012، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًــا الحكم بعدم دستورية نصوص المواد (الثانية والرابعة والحادية عشرة والعشرين) من الأمر العالي الصادر في أول مارس سنة 1902 بشأن الإنجيليين الوطنيين.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم بعدم قبول الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعـوى على النحـو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
—————-
” المحكمة “
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل – على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- في أن المدعي كان قد أقام الدعوى رقم 659 لسنة 2009 أسـرة مركز بني سويف، ضد المدعى عليها الرابعة، طالبًا الحكم بإثبات طلاقه لها الواقع بتاريخ 3/ 9/ 2009، تأسيسًا على أنه قد تزوجها وفقًا للمذهب الأرثوذوكسي (الملة الأرثوذكسية)، ثم انضم إلى الطائفة الإنجيلية واعتنق ملتها، فأضحيا مختلفي الملة، وخاضعين – بالتالي – لأحكام الشريعة الإسلاميـة، وأثناء نظـر الدعوى قـدَّم المدعي شهادة من الكنيسة الإنجيلية الوطنية المحليـة بأحمد بدوي – شبرا، تفيـد عضويتـه بهـا منـذ 21/ 8/ 2008، وقيده بسجلاتها برقم (137)، وأنه يمارس الشعائر والطقوس الدينية بها ويواظب على حضور الاجتماعات الروحية لها بحسب نظام الكنيسة الإنجيلية، وقدمت المدعى عليها الرابعة شهادة من رئاسة الطائفة الإنجيلية، تفيد أن الكنيسة المشـار إليهـا ليست من الكنائس الإنجيلية التي تتبع الطائفة بمصر، ولا علاقـة لها بهـا، وأن رئيسهـا لا يتبع الطائفة وغير مدرج بسجلاتها. وبجلسة 27/ 3/ 2011، قضت المحكمة برفض الدعوى، على سند من أنها لا تطمئن للشهادة المقدمة من المدعي التي تفيد انضمامه للطائفة الإنجيلية وتلتفت عنها، الأمر الذي تكون معه الدعوى قد جاءت خلوًا مما يثبت انضمام المدعي لطائفة أخرى. طعن المدعــي على هــذا القضــاء أمــام محكمة استئناف بني سويف بالاستئناف رقم 562 لسنة 49 قضائية، ابتغاء الحكم بإلغائه وإثبات طلاقه للمدعى عليها الرابعة، وضمَّن صحيفة استئنافه دفعًا بعدم دستورية نصوص المـواد (الثانية والرابعة والحادية عشرة والعشرين) مـن الأمر العالـي الصـادر في أول مارس سنة 1902 بشـــأن الإنجيليين الوطنيين، وتمسك بالدفع ذاته أثناء نظر الاستئناف، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، صرحت للمدعي بإقامة الدعوى الدستورية، فأقام الدعوى المعروضة.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم قبول الدعوى شكلاً لرفعها بغير الطريق الذي حدده القانون، لإقامتها دون إبداء دفع بعدم الدستورية أمام محكمة الموضوع، بالمخالفة للبند (ب) من المادة (29) من قانون المحكمة الدستورية العليا، فمردود بأن الثابت بملف الدعوى الموضوعية أن المدعي قدَّم بجلسة 27/ 12/ 2011، مذكرة تمسك فيها بدفعه المبدى بصحيفة استئنافه بعدم دستورية المواد المطعون فيها من الأمر العالي الصادر في أول مارس سنة 1902 بشأن الإنجيليين الوطنيين، وبعد أن قدرت المحكمة جدية الدفع بجلسة 26/ 3/ 2012، قررت تأجيل الدعوى لجلسة 30/ 5/ 2012، لاتخاذ إجراءات الطعن بعدم الدستورية، فأقام الدعوى المعروضة، خلال الأجل المحدد، ومن ثم فإن هذا الدفع يكون غير قائم على أساس سليم، متعينًا الالتفات عنه.
وحيث إن المادة الثانية من الأمر العالي الصادر في أول مارس سنة 1902 بشأن الإنجيليين الوطنيين تنص على أنه لا تعتبر بصفة كنيسة إنجيلية معترف بها إلا التي يكون الاعتراف بوجودها حصل طبقًا لأمرنا هذا .
وتنص المادة الرابعة من الأمر العالي ذاته على أنه يشكل مجلس عمومي لطائفة الإنجيليين الوطنيين يؤلف من مندوبين من الكنائس الإنجيلية المعترف بها التي يكون ناظر الداخلية خولها الحق في انتخاب أو تعيين مندوبين في المجلس المذكور.
وتنص المادة الحادية عشرة منه على أنه لا يخوّل ناظر الداخلية لكنيسة ما الحق في الاستنابة عنها بالمجلس العمومي ولا يصرح بزيادة عدد مندوبي أية كنيسة إلا من بعد أخذ رأي المجلس العمومي.
وتنص المادة العشرون منه على أنه يختص المجلس العمومي أيضًا بمنح لقب إنجيلي وطني لكل واحد من الرعايا العثمانيين التابعين لمذهب إنجيلي من الديانة المسيحية المتوطنين أو المقيمين عادة بالقطر المصري ولم يكونوا من الأعضاء أو المتشيعين لكنيسة إنجيلية معروفة رسميًا وداخلة في التعريف الوارد في المادة الثانية من أمرنا هذا.
ويتخذ المجلس سجلاً لقيد أسماء جميع الأشخاص المعروفين رسميًا بصفة إنجيليين طبقًا لأحكام هذه المادة.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن المصلحة الشخصية المباشرة، وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية، مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم في الدعوى الدستوريـة مؤثرًا فـي الطلبات المرتبطة بهـا، المطروحـة على محكمة الموضـوع.
وحيث إنه بشأن الطعن بعدم دستورية نصوص المواد (الثانية والرابعة والحادية عشرة) من الأمر العالي المشار إليه، فإنه لما كان أولها يحيل في شأن اكتساب صفة كنيسة إنجيلية معترف بها إلى الالتزام بنصوص الأمر العالي، ولم يتضمن في ذاته حكمًا موضوعيًّا محددًا مس حقًا للمدعي، وكان ثانيها ينظم تشكيل المجلس العمومي لطائفة الإنجيليين الوطنيين، ويحدد ثالثها سلطة ناظر الداخلية في التصريح بنواب للكنائس بالمجلس العمومي أو زيادة عدد مندوبيها به، وهى أمور لا صلة لها بواقع الحال في الدعوى الموضوعية، التي تدور رحاها حول إثبات طلاق المدعي للمدعى عليها الرابعة، ومن ثم فإن إبطال هذه النصوص الثلاثة المطعون فيها، لن يحقق للمدعي أي فائدة عملية تغير من مركزه القانوني بعد الفصل فيها، مما تنتفي مصلحته في الطعن عليها، ومن ثم يغدو متعينًا القضاء بعدم قبول الدعوى في هذا الشق منها.
وحيث إن الثابت من الأوراق أن المدعي توخى من دعواه الموضوعية، إثبات طلاقه للمدعى عليها الرابعة، وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، بعد أن صارا مختلفي الملة، بانضمامه إلى المذهب الإنجيلي. وكان صدر المادة العشرين من الأمر العالي الصادر في أول مارس سنة 1902 بشأن الإنجيليين الوطنيين، فيما نص عليه من أنه يختص المجلس العمومي أيضًا بمنح لقب إنجيلي وطني، قد عقد الاختصاص بمنح لقب إنجيلي وطني للمجلس العمومي لطائفة الإنجيليين الوطنيين، وهو ما حال بين المدعي وإثبات انتمائه إلى تلك الطائفة، لعدم موافقة المجلس العمومي السالف الذكر على منحه ذلك اللقب، لكونه الجهة المختصة بذلك، دون غيره. ومن ثم فإن الفصل في دستورية ذلك النص سوف يرتب انعكاسًا أكيدًا وأثرًا مباشرًا على الطلبات المطروحة في الدعوى الموضوعية، وقضاء محكمة الاستئناف فيها، وتتوافر للمدعي مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن على دستورية صدر نص المادة العشرين من الأمر العالي المشار إليه، ويتحدد به نطاق الدعوى المعروضة.
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه – في النطاق المحدد سلفًا- مخالفة حكم المادة (46) من دستور1971، المقابلة للمادة (12) من الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس سنة 2011، والمادة (64) مـن الدستور القائم، لانطوائه علـى إهدار لحرية العقيدة، بحسبان تغيير الطائفة أو الملة هو عمل إرادي يتصل بحريـة الاعتقـاد، وينتج أثـره بمجـرد الانتمـاء إلـى الفرقـة أو الكنيسة التي يتبعها ويمارس شعائرها، وليس لأى جهة التدخل فيها، ولا يجوز لأي تشريع أن يحول بينه وبين ممارسة شعائر الملة التي يعتقدها.
وحيث إن الرقابة الدستورية على القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التي تضمَّنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ إن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً – على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، لكون نصوصه تمثل دائمًا القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. متى كان ذلك، وكانت المناعي التي وجهها المدعي للنص المطعون فيه – في النطاق السالف تحديده – تندرج تحت المناعي الموضوعية، التي تقوم في مبناها على مخالفة نص تشريعي معين لقاعدة في الدستور من حيث محتواها الموضوعي، ومن ثم، فإن المحكمة تباشر رقابتها على النص المطعون فيه – الذي ما زال قائمًا ومعمولاً بأحكامه – من خلال أحكام دستور سنة 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المجالس الملية هي التي كان لها اختصاص الفصل في مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وكان تطبيقها لشرائعهم الدينية مقارنًا لاختصاصها بالفصل في نزاعاتهم المتصلة بأحوالهم الشخصية، فلا يكون قانونها الموضوعي إلا قانونًا دينيًّا. وظل هذا الاختصاص ثابتًا لهذه المجالس إلى أن صدر القانون رقم 462 لسنة 1955 بإلغـاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية، إذ قضى هذا القانون في مادته الأولى بأن تلغى المحاكم الشرعية والملية ابتداء من 1/ 1/ 1956، على أن تحال الدعاوى التي كانت منظورة أمامها حتى 31/ 12/ 1955، إلى المحاكم الوطنية لاستمرار نظرها وفقًا لأحكام قانون المرافعات. ولئن وحد هذا القانون بذلك جهة القضاء التي عهد إليها بالفصل في مسائل الأحوال الشخصية للمصريين جميعهم، فحصرها – أيًّا كانت دياناتهم – في جهة القضاء الوطني، إلا أن القواعد الموضوعية التي ينبغي تطبيقها على منازعاتهم في شئون أحوالهم الشخصية، لا تزال غير موحدة، رغم تشتتها وبعثرتها بين مظان وجودها وغموض بعضها أحيانًا. ذلك أن الفقرة الأولى من المادة (6) من هذا القانون تقضي بأن تصدر الأحكام في منازعات الأحوال الشخصية التي كانت أصلاً من اختصاص المحاكم الشرعية طبقًا لما هو مقرر بنص المادة (280) من لائحة ترتيبها. وتنص فقرتها الثانية على أنه فيما يتعلق بالمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين، الذين تتحد طائفتهم وملتهم، وتكون لهم جهات قضائية ملية منظمة وقت صدور هذا القانون، فإن الفصل فيها يتم – في نطاق النظام العام – طبقًّا لشريعتهم. وهو ما تأكد بمقتضى المادة (3) من دستور سنة 2014، التي تنص على أن شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية …..
وحيث إن المشرع وقد أحال في شأن الأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين إلى شرائعهم، مستلزمًا تطبيقها، دون غيرها، في كل ما يتصل بها؛ فإنه يكون قد ارتقى بالقواعد التي تتضمنها هذه الشرائع إلى مرتبة القواعد القانونية من حيث عموميتها وتجردها، وتمتعها بخاصية الإلزام، لينضبط بها المخاطبون بأحكامها.
وحيث إنه يتبين من تقصي النصوص الخاصة بحرية العقيدة في الدساتير المصرية المتعاقبة، أنها حرصت على التأكيد على تلك الحرية وكفالتها، بدءًا بدستور سنة 1923 الذي نص في المادة (12) منه على أن حرية العقيدة مطلقة، ونصت المادة (13) منه على أن تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في الديار المصرية على ألا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب، وظل هذان النصان قائمين حتى ألغي دستور سنة 1923، وحل محله دستور 1956، فأدمج النصين المذكورين في نص واحد تضمنته المادة (43) منه، وكان يجري نصها على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في مصر، على ألا يخــل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب، ثم تردد هذا النص في دستور سنة 1964 ( في المادة 34 منه)، والمادة (46) من دستور سنة 1971 التي نصت على أن تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، الذي ردد حكمها نص الفقرة الأولى من المادة (12) من الإعلان الدستوري الصادر في 30/ 3/ 2011، ونصت المادة (43) من الدستور الصادر في 25/ 12/ 2012، على أن حرية الاعتقاد مصونة. وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون. ثم نصت الفقرة الثانية من المادة (7) من الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 8/ 7/ 2013، على أن تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية لأصحاب الشرائع السماوية، واستقر الأمر أخيرًا في المادة (64) من الدستور الحالي على أن حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون.
وحيث إن المستفاد مما تقدم أن الدساتير المصرية المتعاقبة قد التزمت مبدأ حرية العقيدة، التي حرص الدستور القائم على كفالتها، لارتباطها بالأصول الدستورية الثابتة المستقرة في الأنظمة الديمقراطية، فحرية الاعتقاد مطلقة لا قيد عليها، ولكل إنسان أن يؤمن بما يشاء من الأديان والعقائد التي يطمئن إليها ضميره وتسكن إليها نفسه، ولا سبيل لأي سلطة عليه فيما يدين به في قرارة نفسه وأعماق وجدانه. وبهذه المثابة، فإن حرية الاعتقاد تُعد من الحريات اللصيقة بشخص الإنسان، التي لا تقبل – طبقًا لنص الفقرة الأولى من المادة (92) من الدستور – تعطيلاً ولا انتقاصًا، فلا يجوز في المفهوم الحق لهذه الحرية – على ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يُحمــل الشخص على القبــول بعقيدة لا يؤمن بهــا، أو التنصل من عقيدة اعتنقهـا أو أشهرها، أو ممالأة إحداها تحاملاً على غيرها، سـواء بإنكارهـا أو التهوين منهـا أو ازدرائها، بل تتسامح الأديان فيما بينها، ليكون احترامها متبادلاً. ولا يجوز كذلك أن يكون صون تلك الحرية لمن يمارسونها إضرارًا بغيرها، ولا أن تيسر الدولة – سرًّا أو علانية – الانضمام إلى عقيدة ترعاها إرهاقًا للآخرين من الدخول في سواها، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقابًا لمن يلوذون بعقيدة لا تصطفيها، وليس لها بوجه خاص إذكاء صراع بين الأديان تمييزًا لبعضها على البعض. كذلك فإن حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية متكاملتان، وأن ثانيتهما تمثل مظاهر أولاهما باعتبارها انتقالاً بالعقيدة من مجرد الإيمان بها واختلاجها في الوجدان، إلى التعبير عن محتواها علنًا ليكون تطبيقها حيًّا، فلا تكمن في الصدور، ومن ثم ساغ القول بأن أولاهما لا قيد عليها، وأن ثانيتهما يجوز تقييدها من خلال تنظيمها، توكيدًا لبعض المصالح العليا التي ترتبط بها، وبوجه خاص ما يتصل منها بصون النظام العام والآداب حماية لحقوق الآخرين وحرياتهم.
وحيث إن حرية الإنسان فـي اختيار عقيدتـه، وإن كانت مطلقة، فإن ما ينتج عنها ويرتبط بها من آثار تتصل بالغير، وتؤثر في حياتهم ومعاملاتهم، وتمس أوضاعهم، وتنعكس على مراكزهم القانونية، الأمر الذي يتعين معه على المشرع أن يتدخل لتنظيم تلك الآثار، بما يضمن حماية الأسرة واستقرار المعاملات في المجتمع، طالما أنه لا يمس بهذا التنظيم حريـة العقيدة أو يخالط جوهرهــا، أو يتقاطع مع أصولها، وإنما ينضبط في إقراره بالصالح العام، ويلتزم في أحكامه بالنظام العـــام للجماعــة الوطنية، ويتمـــاهى في غاياتــه مع حرص الدولة على تماسك الأسرة واستقرارها وترسيخ قيمها.
وحيث إنه وإن كان تغيير الطائفة أو الملة أمر يتصل بحرية العقيدة، فإنه عمل منوط بالجهـة الدينية المختصة، ومن ثم فهــو لا يتم ولا ينتج أثره بمجرد الطلب وإبداء الرغبة في الانتماء إلى الطائفـة أو الملة الجديدة، وإنما بالدخول فيها وذلك بقبول الانضمام إليها من رئاستها الدينية المعتمدة. ولما كان مؤدى نصوص الأمر العالي الصادر في أول مارس سنة 1902 بشأن الإنجيليين الوطنيين، أن المشرع اعتبر اتباع المذهب البروتستانتي في مصر، على اختلاف شيعهم وكنائسهم وفرقهم طائفة واحدة، عُرفت بطائفة الإنجيليين الوطنيين، دون أن يكون لتعدد شيع وكنائس وفرق هؤلاء الأتباع أي أثر في تنظيم شئونهم الدينية، فوحد الطائفة بضم أهل الفرق البروتستانتية، وجعل من المجلس الإنجيلي العام الهيئة ذات الإشراف الأصيل الشامل على كافة مرافق المسيحيين البروتستانت من النواحي الدينية والإدارية على السواء. فقد اعتد المشرع بطائفة الإنجيليين كوحدة واحدة، ورسم وسيلة الانضمام إليها، وهي قبول هذا الانضمام من المجلس العمومي للطائفة، باعتباره صاحب الاختصاص الوحيد بالفصل في طلبات الانضمام إليها بكافة شيعها وفرقها وكنائسها، طبقًا للمادة العشرين من الأمر العالي السالف البيان.
وحيث إن الشخصية الاعتبارية للهيئات والطوائف الدينية وفقًا لنص المادتين (52 و 53) من القانون المدني، لا تثبت إلا باعتراف الدولة اعترافًا خاصًّا بها، بمعنى أنـه يلزم صـدور ترخيص أو إذن خاص بقيـام هـذه الشخصية لكـل هيئة أو طائفة دينية حتى يكون لها وجود قانوني، تحرزًا من أن يجمع كل داعية حوله اتباعًا، ويتخذ لهم نظامًا، وينصب نفسه قائدًا لهم، وهو اعتراف فردي على خلاف الاعتراف العام، وأن اعتراف الدولة بطائفة الإنجيليين الوطنيين هــو اعتراف بالطائفة جميعها، بكافة شُعَبِها وكنائسها باعتبارها طائفة واحدة يمثلها المجلس العمومي لها، وأن المشـرع لم يمنـح الشخصية الاعتباريـة لأى مـن كنائسهـا أو الهيئـات أو المذاهـب المتفرعـة عنهـا أو الممتدة إليها، ولم يجعل لأي منها ذمة مالية مستقلة.
وحيث إن المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بضوابط معينة، وكان جوهر هذه السلطة التقديرية يتمثل في المفاضلة التي يجريها المشرع بين البدائل المختلفة لاختيار ما يقدر أنه أنسبها للمصلحة العامة وأكثرها ملاءمة للوفاء بمتطلباتها في خصوص الموضوع الذي تتناوله بالتنظيم.
وحيث إن ولاية المجالس الدينية للمصريين من المسيحيين واليهود في تنظيم شئون مللهم وطوائفهم، إنما يجد سنده فيما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (64) من الدستور القائم، في ضوء ارتباطها العضوي بنص المادة (3) منه، التي وسدت أولاهما للمشرع – من خلال البدائل التي تتراءى له سلطة تنظيم ممارستهم الشعائر الدينية، وينضوي تحتها كافة المسائل وثيقة الصلة بالشأن المذكور – والذي عهد إلى المجالس الدينية لملل وطوائف المصريين من المسيحيين واليهود تحديد قواعد الانضمام إليها، وفق الشروط الموضوعية المستمدة من شرائعهم، فإنه بذلك يكون قد حدد البديل التشريعي الذي يتوافق مع سلطة المشرع في تنظيم ممارسة الشعائر الدينية للمصريين من المسيحيين واليهود، وذلك دون إخلال بسلطته في إعادة تنظيم الشأن ذاته، كلما دعت إليه المصلحة العامة.
متى كان ذلك، وكان التنظيم الذي أتى به النص المطعون فيه، بما استلزمه من موافقة المجلس الإنجيلي العام بمصر، على منح لقب إنجيلي وطني، إنما يتغيا التثبت من صدق الإيمان بمبادئ وقيم هذا المذهب، الذي يعكسه تحقق الشروط الموضوعية في الأمر العالي ذاته، وبما يحول دون اعتبار منح هذا اللقب لغير مستحقه وسيلة لزعزعة استقرار مراكز قانونية للغير، لا سيما في نطاق الحماية الواجبة لاستقرار الأسرة، ومن ثم يكون هذا التنظيم قد جاء في إطار السلطة التقديرية للمشرع في تنظيم الحقوق، على ضوء ما يجيزه من موازنات بين المصالح المختلفة، بما لا ينال من حرية العقيدة أو يقوض أسسها أو يعطل ممارسة شعائرها، ويكون النعي على مسلكه بمخالفة المادة (64) من الدستور، مفتقدًا لدعامته، حريًّا برفضه.
وحيث إن النص المطعون فيه لا يخالف أي حكم آخر من أحكام الدستور، فإنه يتعين القضاء برفض الدعوى.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعــوى، ومصادرة الكفالة، وألزمت المدعــي المصروفات.