ميراث الأقباط وشُبهة عدم الدستورية
لا مناص من الإعتراف بأن الدستور القائم بالبلاد (دستور 2014) قرر أحقية المسيحيين ، واليهود في أن يطبقوا مبادئ شريعتهم على ثلاث أمور جاءت على سبيل الحصر هي ” المسائل المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية”، فهذا الأمر أصبح حقيقة ، لا سيما وأن ظل هذا الحُلم لعقود .طويلة يداعب جفون الأقباط في مصر إلى أن بات قريب التحقق على يد قيادتان سياسية، وقيادة دينية واعيتان.
ولكن مع وجود هذا النص بصياغته الحالية ( م3 من دستور 2014) قد تُثار بعض المخاوف ، ذلك أن هذا النص وبطبيعته كأي نص دستوري له حدود ينبغي أن تُصاغ القوانين المُزمع سنِها في فلك تلك الحدود ولا تتعداها ، ولا بد من أن يفطن من عُهد اليه بسن التشريعات ( البرلمان) إلى مقاصد ومعاني هذا النص، ويستتبع ذلك الوقوف على دقته وحقيقة مرماه ، فلا يُمكن تحميل النص الدستوري أي تأويل غير ما يحتمله من معاني ومقاصد غير التي يعنيها ، إذ يُخطئ – في تقديري الخاص – من يظن من قراءته لنص المادة (3) من دستور 2014 على أنه أعطى الحق للمسيحيين أو اليهود أن يُطبقوا( شرائعهم) على مسائل محددة ذُكرت سلفًا منها المسائل المنظمة للأحوال الشخصية – فهذه القراءة غير صحيحة على الإطلاق – ذلك أن النص الدستوري للمادة الثالثة حدد لفظ مبادئ ( Des principes ) ، وليس (جُملة أحكام الشريعة بتنوع مصادرها) ، والمبدأ كما هو مُعرف لغويًا ” مبدأ الشيء ، وفي هذا بالغ الأثر المترتب على معنى كل من اللفظين ، فالعبارة الواردة بنص م 3 من دستور 2014 تُشبه إلى حدٍ بعيد إن لم يكن متطابق المعنى الوارد بنص م 2 من ذات الدستور، والذي اعتبر أن ” مبادي الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، وعلى ذلك فإن الأمر بات محصورًا في مبادئ كل من الشريعتين وليس في مصادر الشريعة في عمومها.
فإذ ما قُلنا أن مبادئ الشريعة الإسلامية يُقصد بها وكما عرفتها المحكمة الدستورية العُليا في مصر بأنها الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هي التي يكون الاجتهاد فيها ممتنعًا، لأنها تمثل من مبادئها الكلية، وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، فلا مناص أيضًا من أن يفسر لفظ (مبادئ شرائع المسيحيين ) بذات المعنى ويكون المصدر لتلك المبادئ واحدًا وهو الكتاب المقدس بعهديه ( القديم والجديد) ، فلا يمكن أن يتعدى المعنى ذلك لاختلاف المصادر المُعتبرة باختلاف الملل والطوائف تلك الأخيرة التي استقت تشريعاتها من المصدر الرئيسي ( الكتاب المقدس )، ثم تنوعت واختلفت فيما تلى من مصادر .
وعلى ذلك فإننا نرى أن المُشرع لابد وأن يفطن إلى هذا المعنى، وذاك المقصد، وأن يستقي مواد ونصوص التشريع الجديد المزمع صدوره للمسيحيين على ضوء ذلك كيما لا يسقط القانون برمته في حومة عدم الدستورية.
ولا شك أن من أهم المسائل التي هي محل جدل كبير (ميراث الأقباط) ومحاولات المساواة بين الذكر والأنثى (والتي نأمل نجاحها)، وإن كان يثور بخُلدي – كما ذكرت – بعض المخاوف الدستورية والقانونية، وايضاح هذه المخاوف يستتبع بالضرورة التفرقة بين حالتان هما: –
الحالة الأولى: ميراث الأقباط في الوضع الراهن على ضوء ما هو معمول به من قوانين في ظل الدستور الجديد القائم.
الحالة الثانية: – ميراث الأقباط مستقبلاً حال صدور قانون ينظم ذلك وما قد يشوبه من عدم دستورية.
فيما يخص الحالة الأولى: لا يُخفى على الجميع أن هناك بعض الأحكام القضائية أعملت نصوص ومواد لائحة 1938 فيما يتعلق بمسائل الميراث ظنًا منها أنها تطبيق أحكام الدستور القائم، وإن كنا نرى أن حُججها التي أستندت اليها لإصدار هذه الأحكام مردودة بالأتي:-
- أن نصوص لائحة 1938 فيما يتعلق بمسائل الميراث وكذلك القانون رقم 25 لسنة 1944 قد تم نسخهما بصدور أحكام القانون المدني رقم 131 لسنة 1948 والذي نص في مادته 875 على أن ” تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأنها………… ، واية ذلك النسخ أن القانون المدني الصادر في 1948 هو قانون لاحق على لائحة الاقباط الأرثوذكس الصادرة في 1938 ، والقانون المدني نظم مسألة الميراث بأحكام جديدة وساوى بين المصريين جميعًا في هذا الصدد ، ولا يقدح في ذلك قول البعض بأن القانون المدني هو قانون عام في حين أن لائحة الأقباط الأرثوذكس قانون خاص ومن ثم – بحسب هذا الرأي – أن القانون الخاص يَجُب العام ، وفي هذا خطأ قانوني كون أن نص المادة (2) من القانون المدني قد نصت على أن ” لا يجوز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق ينص صراحةً على هذا الإلغاء، أو يشتمل على نص يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم من جديد الموضوع الذي سبق أن قرر قواعده ذلك التشريع.”
- والقول بان نص المادة 875 من القانون المدني والمار بيانها والذي في مضمونه وحد القواعد بين المسلمين والمسيحيين بأنه نص غير دستوري إعمالاً لأحكام المادة الثالثة من دستور 2014 هو أيضًا قول عارِ من الصحة كون أن نص المادة الثالثة من دستور 2014 هو قيد استحدثه الدستور على سلطة المشرع في شأن المصادر التي يستقي منها أحكامه التشريعية وأنه لا يمكن اعماله الا بالنسبة للتشريعات اللاحقة على فرضه دون التشريعات السابقة ، ولنا في ذلك سوابق قضائية دستورية ( القضية 46 لسنة 7 ق دستورية ، القضية 125 لسنة 6ق دستورية ، القضية 2 لسنة 8 ق دستورية ، القضية 150 لسنة 4ق دستورية ) تلك الأحكام التي كانت بمناسبة الطعن بعدم دستورية مواد في قوانين مختلفة وطُعن بعدم دستوريتها بعد تعديل المادة الثانية من دستور 1971 الحاصل في 22/5/1980 والذي أقر مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، وكان ما سلف بيانه هو رد المحكمة الدستورية على الدفع بشبهة عدم دستورية تلك القوانين ، وبالقياس على الواضع الراهن فان الطعن بعدم دستورية نص المادة 875 من القانون المدني سيصطدم حتمًا بتلك المبادئ الدستورية المستقرة .
- كذلك فإن مُستحدثات الأحكام الصادرة من الدستورية مؤخرًا (وهو ما لم يفطن له أحد) وخاصة الطعن 60 لسنة 31 ق دستورية والصادر في 6/3/2021، أعتبر أن مسائل الميراث والوصايا والأهلية تحديدًا هي من قواعد الأحوال الشخصية الموضوعية الموحدة على المصريين جميعًا،( مع تحفظنا على اعتبارها من مسائل الأحوال الشخصية كونها من الماليات والتي تعتبر من الأحوال العينية وليست الشخصية وفقًا لما هو متواتر عليه بقضاء النقض ) تلك المسائل وبحسب الحكم المار بيانه لا يجوز فيها اعمال أحكام الشرائع الخاصة ومنها لائحة 1938 في هذا الشأن (ومنها الميراث)، وهذا مبدأ دستوري له حجية عامة على كل الوقائع المماثلة بقوة القانون ، يطبق على كل الوقائع المماثلة ، والقضاء أو القول بغير ما قضى به يكون الأمر قد دخل في حومة عدم الدستورية ومهو ما نتمنى أن ننزه عنه .
أما فيما يخص الحالة الثانية : وهو حال صدور قانون مُستقبلاً للأقباط يُنظم مسألة الميراث فإننا نخشى أن يكون محفوف بشبهة عدم الدستورية هو الأخر لما سبق وأن فندناه في معنى ولفظ (مبادئ الشريعة المسيحية)، هذا اللفظ الذي قلص المعنى كثيرًا وحصر المصادر التشريعية – للأسف- في مصدر واحد (الكتاب المقدس) لا يمكن أن يتعدى لغيره، إذ لم يُذكَر في الكتاب المقدس بعهديه أحكام اجمالية كالفرائض الواردة بالقرأن الكريم لتحديد وبيان ما يجب اتباعه في هذا الشأن، فليس هناك ما هو قاطع الثبوت وواضح الدلالة في شأن ذلك ، ولا شك أن الكتاب المقدس قد تحدث فيما يجب أن يتحلى به الفرد من قيم عليا ومُثل عليا وأخلاق ومحبة ، ولم يفرق بين ذكر وأنثى ، فهو- الكتاب المقدس – ليس بكتاب شريعة – أساسًا – وانما هو مصدر تعليم لنوال الخلاص الروحي ونستعير في ذلك ما قاله القديس إكليمنضس السكندري عن دور الكتاب المقدس كمصدر تعليم وتدريب في حياة الإنسان، راعيًا كان أو من الشعب، قائلًا: حقًا مقدسة هي هذه الكتب التي تقدس وتؤله… ليس إنسان هكذا يتأثر بنصائح أي قديس من القديسين كما يتأثر بكلمات الرب نفسه محب البشر. لأن هذا هو عمله، بل عمله الوحيد، خلاص الإنسان، لهذا يحثهم على الخلاص ويفرح، قائلًا: “ملكوت السماوات داخلكم”… فالإيمان يقودك فيه، والخبرة تعلمك، والكتاب المقدس يدربك، وما يؤكد على ذلك ان السيد المسيح لم يقبل أن يكون قاضيًا للنزاعات يَفصل في القوانين الخاصة بغنى هذا العالم.. اذ رأي أنه ينبغي ألا يتدخل بين الإخوة كقاضٍ، وإنما يلزم أن يكون الحب (لا القضاء) هو وسيطهم في التفاهم، وكان ذلك حينما تشاجر أخان على الميراث جاء أحدهما يطلب من السيِّد المسيح أن يقضي له، فأجابه: “يا إنسان من أقامني عليكما قاضيًا أو مقسمًا؟ (ورفض السيد المسيح التدخل في هذا الشأن، ويلاحظ أن هذا الرفض كان تحديدًا في مسألة تخص قسمة الميراث).
هذه هي القواعد المعمول بها حتى الأن في ثوبها الحقيقي أردت أن أضعها كما هي في مواجهة القارئ لأن الإصطدام بها أصبح أمر واقعي لا مناص منه أتمنى أن نتفاداه مستقبلاً وأن نضعه نَصب أعيننا حين صياغة وإعداد قانون طالما حلُمنا به أصبح قريب المنال، لا أود أن يُجهض قبل أن يولد.
البير أنسي – محامٍ بالنقض والإدارية والدستورية العُليا
https://alberonsy.com/wp-content/uploads/2024/01/meras-el-akbat.pdf