مبدأ المساواة فى القضاء الدستورى
بقلم
د . احمد فتحى سرور
يعد مبدأ المساواة حجر الزاوية فى القضاء الدستورى، فهو كما قالت المحكمة الدستور العليا فى مصر: اساس العدل والحرية والسلام الاجتماعى، وعلى تقدير أن غاية صون حقوق المواطنين وحرياتهم فى مواجهة صور التمييز التى تنال منها أو تقيد ممارستها ولذلك ينال هذا المبدأ اهتماما بالغا فى مختلف المحاكم الدستورية فى العالم، وكثيرا ما تستند الطعون الدستورية إلى الإخلال بمبدأ المساواة، وقد لوحظ فى ذات الوقت أن هذا المبدأ تلتف حوله الشعوب فى النظم الديمقراطية وتدافع عنه بكل حرارة، وقد قال عنه أحد الفقهاء الإسبان: إن فيه يكمن التوتر بين المشرع والقاضى وبين السياسة والقانون، مما يؤدى إلى تدخل القضاء لمواجهة تحكم المشرع.
خصائص مبدأ المساواة:
ويتمتع مبدأ المساواة بثلاث خصائص، فهو حق من حقوق الإنسان، ويتمتع بالقيمة الدستورية، ويعد من المبادئ العامة للقانون وبوصفه من حقوق الإنسان، ظهر هذا المبدأ فى مواثيق حقوق الإنسان، فسجله إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789 “المادة 6″، كما سجله القانون الأمريكى للحقوق المدنية سنة 1866، وأكده الإعلان العالمى لحقوق الإنسان سنة 1948، والعهد الدولى لحقوق المدنية والسياسية سنة 1966. ويتمتع هذا المبدأ بالقيمة الدستورية، فقد أكد المجلس الدستورى الفرنسى أن ديباجة دستور سنة 1958 التى تضمنت إعلان حقوق الإنسان والمواطن تعد جزءاً من الدستور بما يستتبعه من إضفاء القيمة الدستورية على مبدأ المساواة، ورغم أن الدستور الفرنسى أكد هذا المبدأ صراحة فى مادته الأولى، إلا أن المجلس الدستورى يحرص عند الطعن بعدم الدستورية بناء على الإخلال بمبدأ المساواة على الإشارة إلى المادة السادسة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن التى نصت على هذا المبدأ والتى نالت القيمة الدستورية بناء على الإشارة إلى هذا الإعلان فى ديباجة الدستور الفرنسى. وقد تأكدت القيمة الدستورية لهذا المبدأ فى التعديل الرابع للدستور الأمريكى، كما تتجلى هذه القيمة الدستورية واضحة فى الدساتير الأوروبية “كما فى ألمانيا والنمسا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال”. كذلك تجلى هذا المبدأ واضحا فى المادة 40 من الدستور المصرى التى نصت على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة لا تمييز فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين.
ويعد مبدا المساواة من المبادئ العامة للقانون ، ويرتكز ذلك على أساس من الفلسفة السياسية والديمقراطية، باعتبار أن الحرية لا توجد ما لم تكن متاحة للجميع، فلا ديمقراطية بغير حرية، ولهذا يستخدم مبدأ المساواة لتطبيق جميع الحقوق والحريات، فهو مبدأ مشترك لكى يتمتع الجميع بكافة الحقوق والحريات، لهذا قيل بحق إن هذا المبدا هو حجر الزاوية فى القضاء الدستورى، بوصفه إحدى الدعائم الرئيسية لدولة القانون، ونظرا إلى أن سيادة القانون لا تعلو ما لم تطبق على قدم المساواة، وبناء على ذلك فإنه على الرغم من الإقرار الصريح لهذا المبدا فى الدستور إلا أنه يستخلص ضمنا من مجموعة من المبادئ التى تقوم عليها دولة القانون، وعلى رأسها مبدأ سيادة القانون ومبدأ الديمقراطية. واعتمادا على أن مبدا المساواة يعد من المبادئ العامة للقانون، فقد استند إليه القضاء الإدارى فى فرنسا دون حاجة إلى نص صريح، وأكد على ضرورة التزام جهة الإدارة به فى كافة أعمالها، واعتبره من أمهات المبادئ “Principe mere” وذخرت موسوعات القضاء الإدارى الفرنسى بتطبيقات مختلفة لمبدأ المساواة، باعتباره من المبادئ العامة للقانون، وترتكز هذه التطبيقات بوجه عام على محاور ثلاثة، هى المساواة أمام الخدمات العامة، والمساواة أمام الأعباء العامة، والمساواة بين المنتفعين بالدومين العام، كما ذخرت مجموعات أحكام القضاء الإدارى المصرى بتطبيقات مختلفة لهذا المبدأ، تجلت فى تأكيد مبدأ المساواة أمام القضاء، والمساواة أمام الوظائف العامة، والمساواة فى التكاليف والأعباء العامة، والمساواة فى تحمل الضرائب. على أن اعتبار مبدأ المساواة من المبادئ العامة للقانون لا يحول دون إضفاء السمو على القيمة الدستورية لهذا المبدأ، وهو ما يرتب اختلافاً فى القضاء الدستورى فى تطبيقه لهذا المبدأ بالنظر إلى قيمته الدستورية، عن القضاء الإدارى فى تطبيقه للمبدأ المذكور بوصفه من المبادئ العامة للقانون، ويبدو هذا الاختلاف أساساً فى أمرين: أولهما: فى مجال التطبيق فى القضاء الدستورى، إذ يبدو أكثر اتساعاً عنه فى القضاء الإدارى، وعلة ذلك أن المشكلات الكبرى للمجتمع تتم معالجتها بواسطة التشريع لا بواسطة القرارات الإدارية، ومن ثم فإن خضوع التشريع للرقابة الدستورية يتيح للقضاء الدستورى مجالات أكثر رحابة مما تتاح للقضاء الإدارى الذى يراقب مشروعية القرارات الإدارية. ثانيهما: فى أصالة التفسير الدستورى لمبدأ المساواة، وذلك بالنظر إلى أن سلطة القضاء الدستورى فى رقابته على المشرع تختلف عن سلطة القضاء الإدارى فى رقابته على جهة الإدارة، ويرجع ذلك إلى اختلاف سلطة الإدارة عن سلطة المشرع، فالأولى ينحصر دورها فى تنفيذ القانون، مما يضيق من نطاق سلطتها التقديرية، هذا بخلاف الحال لدى المشرع، فإنه يملك سلطة تقديرية واسعة فى وضع القواعد القانونية، وتقدير أسباب المصلحة العامة التى قد يراها مبرراً جوهرياً للخروج على مبدأ المساواة . ومن هذا المنطلق قد تختلف تطبيقات القضاء الدستورى عن تطبيقات القضاء الإدارى بالنظر إلى مبدأ المساواة، ومن ناحية أخرى يلاحظ أن القضاء الدستورى المصرى يختص وحده دون غيره بالرقابة الدستورية على اللوائح، مما مقتضاه أن القضاء الإدارى على مدى احترام اللوائح لمبدأ المساواة يتحدد فى ضوء القانون الذى صدرت اللوائح طبقاً له، كما أن رقابته على القرارات الإدارية الفردية تنصرف إلى مدى احترام جهة الإدارة لهذا المبدأ عند تنفيذ القانون أو اللائحة. وحدة مناط القيمة الدستورية لمبدأ المساواة مع سائر القيم الدستورية: سنبين فيما بعد أن مبدأ المساواة ليس هو المساواة الحسابية أمام القانون، وإنما هى المساواة التى تعتمد على معايير موضوعية بالنظر إلى الهدف من القانون وإلى المصلحة العامة. وبهذا المفهوم جاء مبدأ المساواة انعكاساً للتوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة التى تقوم عليها الشرعية الدستورية، فالدستور يعبر عن قيم دستورية مختلفة، منها ما يتعلق بالحقوق والحريات “مثال ذلك فى المواد 1، 44، 45، 47، 48، 50، 55، 56/2، 62 ، 69/2، 71 من الدستور المصرى” ومنها ما يتعلق بالمصلحة العامة “مثال ذلك المواد 23، 45، 146 من الدستور المصرى”، وبالنظر إلى أن الوثيقة الدستورية متكاملة فى نصوصها ومبادئها، فإن التوازن بين مختلف القيم الدستورية يحدد نطاق الحماية التى استهدفها الدستور لكل من هذه القيم. وفى ضوء ذلك، أخذت المحكمة الدستورية العليا بمبدأ الضرورة والتناسب كمعيار لهذا التوازن، وتجلى ذلك واضحاً فى مجالى التجريم والعقاب. فذهبت إلى أنه كلما كان الجزاء مقرراً لضرورة ومتناسباً مع الأفعال التى أثمها المشرع أو منعها، متصاعداً مع خطورتها – كان موافقاً للدستور وقضت بعدم توافر التناسب فى جريمة الاتفاق الجنائى بالنظر إلى أن مظاهر التعبير الخارجى عن الإرادة البشرية وحدها، وليس النوايا، هى التى تعد واقعة فى نطاق التجريم، وأن عقوبة الاتفاق الجنائى لا تتناسب مع الأفعال التى أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها، بالنظر إلى أن المشرع عاقب على الاتفاق الجنائى بذات العقوبة المقررة للجريمة المستهدفة من الاتفاق ولو لم تقع هذه الجريمة. وفى هذا المعنى قضت محكمة التحكيم البلجيكية سنة 2001 “بوصفها المحكمة الدستورية” بأن الإخلال بمبدأ المساواة يتحقق إذا لم تتوافر علاقة معقولة من التناسب بين الوسائل المستخدمة والهدف الذى توخاه القانون. وهكذا نجد أن معيار التناسب هو الذى تأخذ به المحكمة الدستورية العليا فى مجال تحديد شرعية التجريم والعقاب، وتعتنقه كذلك فى مجال تحديد مدلول المساواة أمام القانون. ومن ناحية أخرى، فقد اتجهت المحكمة الدستورية العليا فى مجال تحديد المقصود بشخصية العقوبة إلى أن يتعين عند توقيع العقوبة ألا تفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابستها. وكذلك الأمر فى مجال تقدير الحماية الدستورية لاستقلال الوظيفة القضائية، فقد اعتبرت المحكمة الدستورية العليا أن سلطة المحكمة فى تقدير تناسب العقوبة يعد متطلباً دستورياً لصون موضوعية تطبيقها، بما مؤداه قيام علاقة حتمية بين سلطة القاضى فى تفريد العقوبة وتناسبها وارتباطهما معاً بمباشرة الوظيفة القضائية. فإذا وضعنا كل هذه المبادئ أمامنا ونظرنا إلى معنى المساواة الذى تأخذ به المحكمة الدستورية العليا، وكيف أنه يتحقق بارتباط المعاملة بالأغراض التى يتوخاها المشرع، وأن مناط المساواة يتحقق باتصال أغراض التتنظيم التشريعى بالوسائل التى يلجأ إليها من الناحية المنطقية، أدركنا بوضوح الوحدة المعيارية لمبدأ المساواة مع سائر القيم الدستورية التى تقوم حمايتها على التوازن القائم على التناسب. مضمون مبدأ المساواة: يقصد بمبدأ المساواة أمام القانون خضوع كافة المراكز القانونية المتماثلة لمعاملة قانونية واحدة على نحو يتناسب بطريقة منطقية وفقًا للهدف الذى توخاه القانون. ويتحقق المبدأ بتقرير معاملة قانونية مختلفة للمراكز القانونية المختلفة أو بسبب المصلحة العامة، إذا كان ذلك كله متفقاً مع الهدف الذى توخاه القانون. واشتراط التناسب فى المعاملة القانونية يعنى أن المساواة أمام القانون ليست مساواة حسابية، ولا تعنى التطابق فى التعامل مع المراكز القانونية المتماثلة، فالمساواة القانونية لا يجوز فهمها بمعنى ضيق، لأنها لا تعنى سوى عدم التمييز فى المعاملة. وقد استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا فى مصر على أن المساواة كضمان دستورى ليست مساواة حسابية، بل يملك المشرع بسلطته التقديرية ولمقتضيات الصالح العام وضع شروط موضوعية تتحدد بها المراكز القانونية التى يتساوى بها الأفراد أمام القانون. وقد ظهرت عدة اصطلاحات للتعبير عن مبدأ المساواة، فذهب البعض إلى التمييز بين المساواة أمام القانون والمساواة داخل القانون، والمساواة بواسطة القانون، وقيل أن المساواة أمام القانون هى المعنى الذى استهدفته الثورة الفرنسية، وأريد به وضع حد لنظم عدم المساواة العميقة بين المواطنين أمام القانون. ويقصد به أن القانون يجب تطبيقه بالطريقة نفسها على الجميع مهما كانت مستوياتهم، باعتبار أن القانون بقواعده العامة المجردة ينطبق على الجميع بغير استثناء، أما المساواة داخل القانون فيقصد بها أن القانون يجب أن يكون عادلاً، أى يقرر معاملة واحدة للمراكز القانونية الواحدة ، بينما يقرر معاملة مختلفة للمراكز المختلفة، وقد عبر البعض عن ذلك بالقول أن فكرة المساواة تتحقق بالاختلاف Legalite par la differenciation مما مقتضاه تحقق المساواة حين يضع المشرع قواعد متميزة لكل مجموعة من المواطنين يندرجون تحت مراكز قانونية مختلفة، ويقصد بالمساواة بواسطة القانون إمكان تقرير معاملة واحدة لمراكز واحدة أو العكس بالعكس إذا ما اقتضى ذلك سبب موضوعى منطقى. وواقع الأمر فإن هذه المعانى الثلاثة متساندة متكاملة تعطى مضموناً متكاملاً للمساواة يتمثل فى ثلاث ركائز لهذه المعانى على التوالى، وهى مساواة الجميع فى المعاملة القانونية، دون أن تكون محض مساواة حسابية، مع إمكان التمييز فى المعاملة وفقًا لأسباب موضوعية منطقية. وكل هذه الركائز جميعاً تسهم فى تحديد مضمون المساواة القانونية، أى المساواة أمام القانون. فهى مساواة لا تتحقق إلا بداخل القانون وبواسطته. ويلاحظ أن المساواة فى المعاملة القانونية التى تستند إلى الأسباب الموضوعية المنطقية التى تقوم عليها المراكز القانونية، تعنى أنها لا تتفق مع التحكم، فالتمييز المنهى عنه هو المعاملة التحكمية، وقد عبر العميد “فيدل” عن التحكم بأنه شئ لا يمكن قبوله بالمنطق أو العقل، وهو ما يشير إلى أن التطابق مع المنطق أو العقل هو مناط المعاملة المتساوية، وقد أخذت المحكمة العليا الأمريكية بمعيار منطق المعقولية البحتة Mere Rationality ، كما ذهب المجلس الدستورى الفرنسى إلى اعتبار كل تمييز أمرا غير منطقى “Irrationality” أى أمرا تحكميا لا يستند إلى تبرير أو سبب كاف، كما ذهبت المحكمة الدستورية الألمانية إلى أن مبدأ المساوة يعرض للانتهاك إذا لم يتوافر سبب كاف “RAISON SUFFISANTE’ للمعاملة غير المتساوية، وكذلك أيضا ذهبت محكمة العدل للمجتمعات الأوروبية. ومن أمثلة الأمور التحكمية ما قرره المجلس الدستورى الفرنسى من أن احترام مبدأ المساواة يتطلب فى القانون الذى ينص على اختيار قضاة المحكمة بالانتخاب ألا يقيم وزنا للأهمية الاقتصادية للمشتركين فى الانتخاب، وإلا كان غير دستورى لمخالفته لمبدأ المساوة أمام القانون، وذلك باعتبار أن هذا القانون يهدف إلى تشكيل المحكمة وليس إلى تشكيل جمعية من ممثلى أصحاب المصالح الاقتصادية، مما لا مجال معه لإعطاء وزن لأصحاب مصلحة اقتصادية معينة فى مجال انتخاب القضاة. وقد اعتنقت المحكمة الدستورية العليا فى مصر ذات المعيار، بأن صور التمييز- وإن تعذر حصرها – هى وحدها التى يكون قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التى كفلها الدستور أو القانون، وقالت أن التمييز المخالف لمبدأ المساواة هو الذى يكون تحكمياً لا يستند إلى أسباب موضوعية تبرره. ضوابط الرقابة الدستورية على احترام مبدأ المساواة: تمر الرقابة الدستورية على احترام المشرع لمبدأ المساواة أمام القانون عند الطعن بعدم دستورية القاعدة التشريعية استناداً إلى ما تقرره من معاملة مختلفة لبعض المراكز القانونية فى مواجهة الآخرين، تمر بمرحلتين أساسيتين: (الأولى) التحقق من أن المعاملة المختلفة تستند إلى اختلاف فى المراكز القانونية أو إلى سبب يتعلق بالمصلحة العامة. (الثانية) التحقق من أن المعاملة المختلفة المتوافرة طبقاً للمرحلة الأولى تتفق بطريقة متناسبة مع الهدف الذى توخاه القانون. ومن خلال هذه المرحلة يتضح مدى تناسب المعاملة المختلفة المستخلصة وفقاً للمرحلة الأولى مع الهدف الذى توخاه القانون، فإذا توافر هذا التناسب كانت القاعدة التشريعية مطابقة للدستور، وإلا وقعت فى حمأة عدم الدستورية. وفى ضوء ما تقدم، ترتكز الرقابة الدستورية وفقًا لهاتين المرحلتين على ما يأتى: 1- التحقق من وجود اختلاف فى المعاملة القانونية، سواء اعتمد هذا الاختلاف على اختلاف المراكز القانونية أو اعتمد على تحقيق المصلحة العامة. 2- التحقق من أن الاختلاف المذكور يتطابق مع الهدف من القانون. وفيما يأتى نبحث كلا من هاتين الركيزتين: (أولا) اعتماد الاختلاف فى المعاملة القانونية على الاختلاف فى المراكز القانونية أو على تحقيق المصلحة العام: 1- الاختلاف فى المعاملة القانونية القائم على اختلاف المراكز القانونية تتحدد المراكز القانونية إما بالنظر إلى الدستور أو بالنظر إلى القانون. فبالنظر إلى الدستور قد يحدد الدستور بعض المراكز القانونية المختلفة، وينص فى ذات الوقت على معاملة مختلفة لها عن سائر المراكز القانونية، مثال ذلك فى الدستور المصرى رئيس الجمهورية (المادة 81)، وعضو مجلس الشعب (المادة 95) والوزير (المادة 158) فقد ميز الدستور بينهم وبين المواطنين فيما يتعلق بحق الملكية وحق التعاقد، فنص فى المادة (81) على أنه لا يجوز لرئيس الجمهورية أثناء مدة رئاسته أن يزاول مهنة حرة أو عملاً تجاريًا أو ماليًا أو صناعيًا أو أن يشترى أو يستأجر شيئًا من أموال الدولة، أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئًا من أمواله، أو أن يقايضها عليه، ونص فى المادة (158) على ذات الالتزام بالنسبة إلى الوزير أثناء تولى منصبه، ونص فى المادة (95) على أنه لا يجوز لعضو مجلس الشعب أثناء مدة عضويته أن يشترى شيئًا من أموال الدولة، أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئًا من أمواله أو أن يقايضها عليه، أو أن يبرم مع الدولة عقدًا بوصفه ملتزمًا أو موردًا أو مقاولاً. ومن ناحية أخرى، ميز الدستور بين المواطنين فى حق المواطنين فى عضوية مجلس الشعب، فأنشأ مركزًا قانونيًًا للعمال والفلاحين مستقلاً عن المركز القانونى للفئات الأخرى، ورتب على هذا الاختلاف أن يكون نصف أعضاء المجلس على الأقل من العمال والفلاحين (المادة 87). ومادام الدستور قد حدد المراكز القانونية المختلفة – يكون قد وضع الشروط الموضوعية التى تتفق مع هذا الاختلاف، ويكون قد قرر لها المعاملة المختلفة لتحقيق مصلحة عامة تتفق مع الهدف الذى توخاه الدستور. كما نصت المادة السادسة من إعلان الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان والمواطن (سنة 1798) والمعتبر جزءًا من الدستور الفرنسى على عدم التمييز بين المواطنين إلا وفقًا لفضائلهم (Vertus) ومواهبهم، كما نصت المادة (13) من ذات الإعلان على أن الإسهام المشترك للمواطنين يجب تقسيمه وفقًا لقدراتهم، كما نصت المادتين (3، 7) من الدستور الفرنسى على وجود اختلاف بين مجتمعات ما وراء البحار ومجتمعات المدن الرئيسية، ويكشف كل ذلك عن تحديد الدستور الفرنسى لبعض المراكز القانونية المختلفة التى قرر لها معاملة مختلفة. وقد يحدد المشرع المراكز القانونية المختلفة التى يقرر لها معاملة مختلفة، ومن قبيل ذلك فى فرنسا اختلاف المراكز القانونية القائمة على اختلاف الجنسية، مما يبرر إعطاء معاملة مختلفة للأجانب عن المعاملة المقررة للمواطنين، وكذلك الأمر فى اختلاف المراكز القانونية للأشخاص الطبيعيين والأشخاص المعنويين، مما يبرر اختلاف كل منهم عن الآخر، كما يتحقق الاختلاف بين المراكز القانونية للعمال وفقًا لاختلاف طبيعة عقد العمل الذى يخضعون له، مثل اختلاف عقد العمل لبعض الوقت عن عقد العمل لطول الوقت، مما يبرر اختلاف المعاملة بين أصحاب هذه المراكز القانونية، ويتحقق الاختلاف بين الموظفين العموميين وفقًا لاختلاف وظائفهم، مما يبرر اختلاف معاملتهم عن غيرهم من الموظفين العموميين. وكذلك الشأن داخل الأشخاص المعنوية، يجوز الاختلاف بينها وفقًا لشكلها القانونى، مما يبرر اختلاف معاملتها القانونية، فقد قرر المجلس الدستورى جواز اختلاف المعاملة القانونية بين الشركات المساهمة وغيرها من المنشآت الفردية أو الشركات التى تأخذ شكلاً قانونيًا آخر. وفى مصر، فإنه من أمثلة الاختلاف فى المراكز القانونية، التمييز بين المستأجرين لغرض السكنى وبين سواهم فى صدد الإعفاءات من الضريبة العقارية، والتمييز بين الطلاب الراسبين وفق عدد مرات الرسوب، بما يبرر قصر فرص امتحان الثانوية العامة على ثلاث مرات. 2- الاختلاف فى المعاملة القانونية بمراعاة المصلحة العامة: قد يتطلب التوازن بين الحقوق والحريات العامة من جهة، والمصلحة العامة من جهة أخرى إعطاء تفوق للمصلحة العامة. وفى هذه الحالة يجب أن تتناسب المعاملة القانونية مع المصلحة العامة ولو أدى ذلك إلى التمييز بين المراكز القانونية المتماثلة. وقد عبر عن ذلك العميد ريفيرو فى قوله بأن القضاء حين أكد بكل قوة مبدأ المساواة، قد أعطى الأولوية للأهتمام بالمحافظة على المصلحة العامة، وقد أدرج المجلس الدستورى الفرنسى تحت فكرة المصلحة العامة عددًا مختلفًا من المصالح سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. أو غير ذلك من المصالح. ويتميز هذا المجلس الدستورى عن بعض جهات القضاء الدستورى فى الارتكاز على المصلحة العامة كمبرر للاختلاف فى المعاملة بين المراكز القانونية الواحدة اعتمادًا على ما نصت عليه المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789، والذى يتمتع بالقيمة الدستورية، فقد نصت هذه المادة على أن الناس يولدون ويستمرون أحرارًا متساوين فى الحقوق، ثم نصت على أن التمييز الاجتماعى لا يمكن تأسيسه إلا على المنفعة المشتركة Utilité commune أو بعبارة أخرى المصلحة العامة كما أشار إلى ذلك قضاء المجلس الدستورى فى فرنسا ويمكن استخلاص هذا المعيار فى مصر وفقًا لمبدأ التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة فى إطار التوازن بين القيم الدستورية التى يحميها الدستور، وضمانًا لتكامل هذه القيم. ومن أمثلة الاختلاف فى المعاملة إشباعًا لمصلحة عامة اقتصادية ما قضى به من جواز تقرير اختلاف فى المعاملة بين البنوك التى يملك معظم رأس مالها أشخاص طبيعيون غير مقيمين فى فرنسا أو أشخاص معنوية لا يقع مركزها الرئيسى فى فرنسا، رغم وحدة المركز القانونى لهذه البنوك، وذلك على أساس المشكلات التى سوف تتعرض لها هذه البنوك فى حالة تأميمها مما يعرض المصلحة العامة للخطر، ومثال المصلحة الاجتماعية ما قضى به من الاختلاف فى المعاملة التى قررها المشرع من أجل تشجيع تعيين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و25 سنة يحقق المصلحة العامة التى يتوخاها المشرع. ومثال المصلحة الثقافية ما نص عليه المشرع من إنقاص ما تدفعه الشركات من هبات للمؤسسات أو الجمعيات الثقافية من مجموع الدخل الخاضع للضريبة، على أساس أن هذا الانقاص تبرره المصلحة العامة. وقد أشار بعض الفقه الفرنسى إلى أن المصلحة العامة كسبب للتمييز فى المعاملة يمثل خصوصية ذاتية فى المنازعة الدستورية الفرنسية، نظرًا إلى أن بعض المحاكم الدستورية الأخرى لا تعتمد على هذه الفكرة لتبرير الخروج على مبدأ المساواة ومع ذلك فيلاحظ أن المحكمة الدستورية الألمانية قد اتجهت إلى أن انتهاك مبدأ المساواة يتحقق بوضع تنظيم خاص لا يستند إلى سبب معقول Un motif raisonnable يستخلص من طبيعة الأشياء أو حين لا تكون له قيمة أخرى واضحة Autre valeur éclairante تجعل التمييز فى المعاملة مشروعًا، فإذا لم يتوافر هذا السبب يكون التمييز تحكميًا. كما ذهبت محكمة التحكيم البلجيكية إلى أنه لا يجوز تقرير معاملة واحدة لمراكز قانونية مختلفة، ما لم يبرر ذلك سبب موضوعى منطقى Objective et raisonnable واتجهت هذه المحكمة إلى أن المشرع يجب أن يوازن بين مختلف الأهداف، فإن هذه الأهداف قد تكون عامة أو أكثر تحديدًا “أى متعلقة بالمصلحة العامة” ومنها الهدف المالى والهدف الاجتماعى، وغير ذلك من الأهداف كالأمن القانونى وحماية الأسرة وسرية التحقيق وحماية البيئة وفعالية إدارة الجيش. وفى هذا الاتجاه ذاته قضت المحكمة الدستورية الأسبانية بأن محاكمة بعض كبار المسئولين فى الدولة (أعضاء البرلمان والوزراء ورئيس الحكومة وغيرهم) أمام محاكم قضائية خاصة لا تعتبر انتهاكًا لمبدأ المساواة لأن هذه المعاملة الخاصة لا ترجع إلى أسباب شخصية تتعلق بأشخاص هؤلاء المسئولين، وإنما ترجع إلى تقييم اعتبار وخصوصية الوظيفة التى يشغلونها، والتى تتعلق بالمصلحة العامة. وقد أخذت المحكمة الدستورية العليا فى مصر بمعيار مراعاة المصلحة العامة عند المفاضلة بين المصالح المحمية. فقضت بأن النص التشريعى المطعون عليه (المادة 210 من قانون الإجراءات الجنائية) بحظره الطعن فى قرار النيابة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية فى تهمة موجهة إلى أحد الموظفين أو المستخدمين العامين لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها قد التزم اتجاه رد غائلة العدوان عن هؤلاء فى مواجهة صور من إساءة استعمال الحق فى التعويض عن الأضرار الناشئة عن الجريمة كوسيلة لملاحقة جنائية تقوم على أدلة متخاذلة أو يكون باعثها التجريح، فإن المشرع يكون قد رجح حماية الوظيفة العامة من مخاطر اتهام لا يقوم على أساس من ناحية الواقع أو القانون، ويكون محققًا لمصلحة عامة ترتكز على أسس موضوعية لا يقيم فى مجال تطبيقها تمييزًا بين المخاطبين بأحكامه المتماثلة مراكزهم القانونية بالنسبة إليه. كما قررت المحكمة الدستورية العليا فى مجال تفسير عبارة (أيًا من الجرائم التى يعاقب عليها قانون العقوبات أو أى قانون آخر) الواردة فى الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية الصادر بالقانون رقم 25 لسنة 1966 والمعدل بالقرار بقانون رقم 5 لسنة 1970، أن المقصود بها الجرائم المحددة بنوعها تحديدًا مجردًا وكذلك الجرائم المعينة بذواتها بعد ارتكابها فعلاً. وأسست المحكمة قرارها بالتفسير على أن رئيس الجمهورية إذ يقدر وفقًا للفقرة الثانية من المادة السادسة –إحالة – جريمة أو جرائم بذواتها بعد وقوعها على ضوء ظروفها ودرجة الخطورة المتصلة بها سواء بالنظر على موضوعها أو مرتكبيها، فإنه بذلك يزن كل حالة على حدة بما يناسبها، ويقرر الإحالة أو يغض بصره عنها على ضوء “مقاييس موضوعية” يفترض فيها استهدافها المصلحة العامة فى درجاتها العليا، بما لا يناقض حقوق المواطنين عدوانًا عليها، أو يخل بحرياتهم انحرافًا عن ضماناتها. كما عنيت المحكمة الدستورية العليا بالإشارة إلى أنه إذا جاز للدولة أن تدفع الضرر الأكبر بالضرر الأقل لزومًا، إلا أن تطبيقها مبدأ المساواة لا يجوز أن يكون كاشفًا عن نزواتها، ولا منبئًا عن اعتناقها لأوضاع جائزة، وهو ما يكشف ضمنًا عن معيار المصلحة العامة، وقضت بأن قصر قضاء تأديب رجال القضاء على درجة واحدة، غير مخالف للدستور يرجع لدواع اقتضتها المصلحة العامة مما ينفى الإخلال بالمساواة بين أعضاء السلطة القضائية وغيرهم فى مجال النفاذ إلى قضاء تتعدد درجاته. وقضت بأن قصر التنظيم الخاص بدعوى الصلاحية على رجال السلطة القضائية دون غيرهم من المواطنين، قد اقتضته أغراض المصلحة العامة. وقضت بأن إفراد تنظيم قضائى لحسم النزاع حول مدى توافر الشروط التى يتطلبها القانون فى مجال شهر المحررات أو تخلفها، وقصره على المخاطبين بها جاء لأغراض تقتضيها المصلحة العامة ممثلة فى سرعة إنهاء المنازعات الدائرة بين أطرافها دون إخلال بما تقتضيه دراستها وفحصها من تهيئة الأسس الكافية للفصل فيها، ومما لا مخالفة فيه لمبدأ المساواة أمام القانون. (ثانيًا) التحقق من أن اختلاف المراكز القانونية أو تحقيق المصلحة العامة يتطابق مع الهدف من القانون: فى هذه الركيزة الثانية يكمن ضابط الرقابة الدستورية ويتحدد بوضوح فلا بد من مراقبة المشرع فى تقديره لاختلاف المراكز القانونية الذى يبرر المعاملة المختلفة، وكذلك الشأن بالنسبة لمراقبته فى تقديره للمصلحة العامة الذى برر تقرير معاملة مختلفة للمراكز القانونية المتماثلة. وفى هذا الشأن نسجل أن الرقابة الدستورية على مدى اتفاق اختلاف المراكز القانونية مع الهدف من القانون، ترتكز على ما يأتى: (1) قيام الاختلاف فى المراكز القانونية على معايير موضوعية منطقية وفقًا للهدف من القانون. (2) ارتباط المعاملة المختلفة بالهدف من القانون. (3) ارتباط المصلحة العامة التى بررت الاختلاف فى المعاملة بالهدف من القانون. (1) قيام الاختلاف فى المراكز القانونية على معايير موضوعية وفقًا للهدف من القانون: استقر القضاء الدستورى على اشتراط توافر معايير موضوعية ومنطقية فى مجال التمييز بين المراكز القانونية بالنظر إلى الهدف من القانون. ففى مصر قضت المحكمة الدستورية العليا بان سلطة المشرع فى تنظيم الحق فى التعليم مقيدة بان يكون هذا التنظيم وفق شروط موضوعية ترتد فى أساسها إلى طبيعة هذا الحق، وأنه بمقتضى ذلك يجب رد طلبة الطب وإن تباينت كلياتهم إلى قاعدة موحدة تكفل عدم التمييز بينهم، ومن ثم فإن اعتبار الرسوب فى غير العلوم الأساسية الطبية قيدًا على النجاح بكلية الطب بجامعة الإسكندرية دون نظيراتها من كليات الطب بالجامعات الأخرى، يعد تحيفًا للحق فى التعليم وانتهاكًا لمبدأ المساواة. وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا على مناط دستورية التنظيم التشريعى الذى ينطوى على تقسيم أو تصنيف أو تمييز سواء من خلال الأعباء التى يلقيها على البعض أو من خلال المزايا التى يمنحها لفئة دون غيرها ألا تنفصل نصوصه التى ينظم بها المشرع موضوعًا معينًا عن أهدافها ليكون اتصاله بالأغراض التى وراءه منطقيًا، فإن صادم النص التشريعى بما انطوى عليه من التمييز هذه الأغراض كان تحكميًا. تطبيقًا لذلك قضى بأن الزيادة فى الأجرة المقررة فى المادة (27) من القانون رقم 136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، تنصرف إلى ملاك المبانى المؤجرة لغير أغراض السكنى دون استثناء، وأيًا كانت طبيعة النشاط الذى تتم ممارسته فيها، وتنطوى على تفرقة أوجدها المشرع فى المادة (27) سالفة البيان دون أن ترتكز فى واقعها على أسس تتصل بالهدف الذى تغياه المشرع من تقرير هذه الزيادة مما ينطوى على إهدار لمبدأ المساواة مع الملاك. وقضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية الفقرة الخامسة من المادة (21) من قانون شركات قطاع الأعمال العام الصادر بالقانون رقم 203 لسنة 1991 فيما تضمنته من تحديد حد أقصى للمكافأة السنوية التى يتقاضها أعضاء مجلس الإدارة المنتخبون، على أساس أن هذا التمييز لا يتصل بالشروط الموضوعية التى ينبغى أن يمارس العمل فى نطاقها (والتى تحدد الهدف من القانون). وقضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة (21) من قانون المحاماة الصادر بالقانون رقم 17 لسنة 1983، وذلك فيما تضمنه من حظر القيد بجدول المحاماة تحت التمرين لمن جاوز سن الخمسين، على أساس أن شرط السن لا يتصل بطبيعة هذه المهنة الحرة وليس لازمًا عقلاً لممارستها ولا مرتبطًا بجوهر خصائصها. وقضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية المادة (18 مكرر ثالثا) المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية إلى المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية على أساس أن هذه المادة مايزت بين الآباء المطلقين رغم تماثلهم فى علاقاتهم بأبنائهم، فى نطاق هذه العلائق، بأن حد من حقوقهم فى إعداد مكان ملائم لسكنى صغارهم إذا كان مسكن الزوجية مؤجرًا، مع بسطها إذا كان غير مؤجر، وهو تمييز لا ينبنى على أسس موضوعية، وأن توفير مسكن مناسب للصغار يتهيأ لهم من أبيهم، هو ما لا تقوم به مصلحتهم فى النفقة التى لا يجوز ربطها على الإطلاق بما إذا كان مسكن الزوجية مؤجرًا أو غير مؤجر، إذ لا شأن لذلك بحق الصغار فى نفقتهم، ولا هو من مقاصدها. (2) ارتباط المعاملة المختلفة بالهدف من القانون: قضت المحكمة الدستورية العليا بأن الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون يتحقق بأى عمل يهدر الحماية القانونية المتكافئة، تتخذه الدولة سواء من خلال سلطتها التشريعية أو عن طريق سلطتها التنفيذية، بما مؤداه أن أيا من هاتين السلطتين لا يجوز أن تفرض تغايرًا فى المعاملة ما لم يكن مبررًا بفروق منطقية يمكن ربطها عقلاً بالأغراض التى يتوخاها العمل التشريعى الصادر عنهما وليس بصحيح القول بأن كل تقسيم تشريعى يعتبر تصنيفًا منافيًا لمبدأ المساواة، بل يتعين دومًا ما أن ينظر إلى النصوص القانونية باعتبارها وسائل حددها المشرع لتحقيق أغراض يبتغيها، فلا يستقيم إعمال مبدأ المساواة أمام القانون إلا على ضوء مشروعيتها واتصال هذه الوسائل منطقيًا بها، ولا يتصور بالتالى أن يكون تقييم التقسيم التشريعى منفصلاً عن الأغراض التى يتغياها المشرع، بل يرتبط جواز هذا التقسيم بالقيود التى يفرضها الدستور على هذه الأغراض، وبوجود حد أدنى من التوافق بينها وبين طرائق تحقيقها، ويستحيل بالتالى أن يكون التقدير الموضوعى لمعقولية التقسيم التشريعى منفصلاً كلية عن الأغراض النهائية للتشريع. كذلك استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا فى مصر على مراقبة الارتباط بين المعاملة القانونية المقررة لبعض الفئات وبين الهدف من القانون الذى قرر هذه المعاملة ونجد ذلك واضحًا فى عديد من المبادئ التى أرستها، فبالنسبة إلى استثناء بعض فئات الطلبة من شرط المجموع عند الالتحاق بالكليات والمعاهد العليا، حكمت المحكمة بعدم دستورية النصوص التى أجازت هذا الاستثناء، وذهبت ضمن ما قررته من أسباب إلى أن المعاملة الاستثنائية فى القبول بالتعليم العالى التى تضمنتها بعض النصوص التشريعية تستتبع أن يحل أفراد الفئات المستثناة محل من يتقدمونهم فى درجات النجاح فى الثانوية العامة أو ما يعادلها فى الانتفاع بحق التعليم فى مراحله العالية المحدودة فرصها، “الأمر الذى يتعارض مع طبيعة التعليم العالى وأهدافه ومتطلبات الدراسة فيه”. وأضافت المحكمة أن النصوص التشريعية المطعون عليها قررت معاملة استثنائية للقبول بالتعليم العالى “يرتكز واقعها على أسس منبتة الصلة بطبيعة هذا التعليم وأهدافه ومتطلبات الدارسة فيه”، إذ تقوم هذه المعاملة فى أساسها ودوافعها على تقرير مزية استثنائية للطلبة المستفيدين منها قوامها إما مجرد الانتماء الأسرى إلى من كان شاغلاً لوظيفة بعينها، أو قائمًا بأعبائها فى جهة بذاتها، أو متوليًا مسئوليتها فى تاريخ معين أو من كان قد استشهد أو توفى أو فقد أو أصيب بسبب أداء مهامها أو من كان حاملاً لوسام، وإما أن يكون مناطها الانتماء إلى المناطق النائية بسبب الميلاد أو الإقامة أو الحصول منها على شهادة الثانوية العامة، وإما أن يكون منحها مرتبطًا بواقعة بذاتها تتعلق بالطلبة أنفسهم من إصابة فى العمليات الحربية أو حصول على وسام معين. وفى صدد الارتباط بين التنظيم التشريعى (أى المعاملة القانونية)، وبين الهدف من القانون الذى قرره، قالت المحكمة الدستورية العليا أن التمييز المنهى عنه هو الذى يكون تحكميًا، باعتبار أن كل تنظيم تشريعى ليس مقصودًا لذاته بل لتحقيق أغراض بعينها تعكس مشروعيتها إطارًا للمصلحة العامة التى يسعى المشرع إلى تحقيقها من ورائه، فإن صادم النص التشريعى بما انطوى عليه من التمييز هذه الأغراض، كان تحكميًا، وربطت المحكمة الدستورية العليا بين موضوعية الشروط التى يحدد المشرع على ضوئها المراكز القانونية التى يتكافأ أصحابها بها أمام القانون وبين اتصال النصوص التى ترتبها بالحقوق التى تتناولها، بما يؤكد ارتباطها عقلاً بها. وتعلقها بطبيعة هذه الحقوق، ومتطلباتها فى مجال ممارستها، وتجلى الارتباط بين الهدف من القانون والمعاملة القانونية فيما قررته المحكمة الدستورية العليا فى قرارها بتفسير نص المادة من القانون رقم 25 لسنة 1966 والمعدلة بالقرار بقانون رقم 5 لسنة 1970، بشأن سلطة رئيس الجمهورية فى حالة الطوارئ فى أن يحيل إلى القضاء العسكرى أيًا من الجرائم المنصوص عليها فى قانون العقوبات أو أى قانون آخر، فيما قالته من أن سلطة رئيس الجمهورية فى تقدير إحالة جريمة أو جرائم بذاتها بعد وقوعها إلى القضاء العسكرى فى ضوء ظروفها ودرجة الخطورة المتصلة بها سواء بالنظر إلى موضوعها أو مرتكبيها، يكون بوزن كل حالة على حدة بما يناسبها على ضوء مقاييس موضوعية يفترض فيها استهدافها المصلحة العامة فى درجاتها العليا، “بما لا يناقض حقوق المواطنين عدوانًا عليها، أو يخل بحرياتهم انحرافًا عن ضماناتها”. فهذه العبارة تكشف عن اهتمام المحكمة الدستورية العليا بألا يكون التمييز فى المعاملة القانونية مفتقرًا إلى أساس موضوعى معقول بالنظر إلى الهدف الذى يتوخاه القانون. وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا أن الهدف من القانون الذى يبرر التمييز فى المعاملة يجب أن يعكس حماية مصلحة مشروعة، وإلا كان التمييز منطويًا على إخلال بمبدأ المساواة وواقع الأمر أن المشروعية والهدف من القانون وجهان لعملة واحدة، باعتبار أن القانون لا يجتمع إلا مع المشروعية. ويتفق هذا المعيار مع ما جرى عليه قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التى طالما أكدت بأن الهدف من القانون هو المعيار الأساسى إن لم يكن الوحيد للحكم فى موضوع المساواة، وقد اتجه القضاء الدستورى فى ألمانيا والنمسا إلى التحقق من أن الاختلاف فى المعاملة القانونية الذى أحدثه التنظيم التشريعى كان ضروريًا ومتناسبًا مع الهدف الذى توخاه القانون، واستظهرت المحكمة الدستورية العليا الألمانية العلاقة بين المعاملة القانونية والهدف من القانون فى قولها بأن سبب الاختلاف فى المعاملة يجب أن يكون موضوعيًا ومعقولاً، لا بطريقة تحكمية وعامة، وإنما يجب أن يكون دائمًا بالنظر إلى طبيعة وذاتية الأوضاع الواقعية محل التنظيم التشريعى، وذلك مع مراعاة المعنى والهدف من التنظيم التشريعى المعنى. واستقر قضاء المحكمة الدستورية الاسبانية على أن الاختلاف فى المعاملة عند وحدة المراكز القانونية يجب أن تبنى على أساس موضوعى معقول. كما أكدت محكمة التحكيم البلجيكية فى هذا المقام على ضرورة وجود علاقة تناسب وثيقة بين الوسائل المستخدمة “المعاملة القانونية” والأهداف المتوخاة من القانون. وهذا ما سار عليه كذلك المجلس الدستورى الفرنسى الذى استقر على التحقق مما إذا كان الاختلاف فى المعاملة القانونية جاء متكيفًا مع أهداف المشرع، وقد استقر هذا المجلس على استخلاص انتهاك مبدأ المساواة عند التحقق من وجود خطأ ظاهر فى تقدير المشرع للتناسب، أو تفاوت واضح، أو وجود عدم تناسب مبالغ فيه، واستخلص البعض من الرقابة الدستورية على التناسب أنها بديل عن الرقابة على انحراف السلطة التشريعية وفى هذا المعنى عبر البعض قائلاً بأن المساواة يمكن تحقيقها بإحدى وسيلتين، الأولى لا تقيم أى تمييز بصفة عامة مجردة “المساواة بالمعنى الضيق”. والثانية تقيم تمييزًا بشرط أن يكون هذا التمييز ضروريًا على نحو يفترض تلاؤم الوسائل “أى المعاملة المختلفة” مع الاهداف “أى الهدف من القانون”. كما عنيت المحكمة العليا الأمريكية بالربط بين المعاملة القانونية والهدف الذى يتوخاه المشرع، وأكدت المحكمة الدستورية العليا الأمريكية فى عدة أحكام لها الارتباط بين المعاملة القانونية والهدف من القاعدة القانونية التى قررتها. وكانت الأحكام الأولى تشير إلى وجوب الارتباط “المعقول” بين المعاملة والهدف من القانون، ثم اتجهت الأحكام بعد ذلك إلى عدم اشتراط ارتباط وثيق بين المعاملة والهدف، وأنه لابد من توفير قسط من المرونة لدى المحكمة فى استخلاص هذا الارتباط إلا أن أحكام المحكمة العليا اتجهت بعد ذلك إلى اشتراط الارتباط الوثيق بين المعاملة المتميزة والهدف من التشريع ارتباط يفوق مجرد المرونة، وأن وسائل المشرع فى تقرير المعاملة يجب أن تقود “بالضرورة” إلى تحقيق أهداف التشريع وليس إلى مجرد الارتباط المعقول، وذهبت بعد ذلك أحكام أخرى تكتفى بأن تكون المعاملة متعلقة بالأهداف بصفة جوهرية. Substantially related to achieve ment of those objectives (3) ارتباط المصلحة العامة التى بررت الاختلاف فى المعاملة بالهدف من القانون: بينا فيما تقدم أن المصلحة العامة لابد تكون أساسًا لاختلاف المعاملة القانونية للمراكز القانونية. وتراقب المحكمة الدستورية العليا مدى ممارسة المشرع لسلطته التقديرية فى ضوء الهدف من القانون. وهذه الرقابة تتحدد فى ضوء قيام المصلحة العامة على أسباب موضوعية معقولة، وفى هذه الحالة لا يستند الاختلاف فى المعاملة إلى اختلاف فى المراكز القانونية، وإنما يستند إلى دور المصلحة العامة فى سد النقص المترتب على عدم اختلاف المراكز القانونية. وقد استقر قضاء المجلس الدستورى الفرنسى على مراقبة مدى اتفاق هدف المصلحة العامة مع الهدف من القانون، على النحو الذى يبرر تقرير معاملة مختلفة بناء على هذه المصلحة. ونلاحظ فى هذا الشأن ما أكدته المحكمة الدستورية العليا فى مصر من ضرورة ارتكاز المصلحة العامة على أسس موضوعية، وما أكدته هذه المحكمة فى قرارها التفسيرى الصادر فى 3 يناير سنة 1993 من ضرورة قيام المصلحة العامة على مقاييس موضوعية، كما أكدت فى العديد من أحكامها فى الدعاوى الدستورية على مقتضيات الصالح العام فى مجال وضع الشروط التى تتحدد بها المراكز القانونية.