عدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (243) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، في مجال سريانه على البند رقم (6) من المادة (241) من القانون ذاته

الدعوى 95 لسنة 43 – دستورية – المحكمة الدستورية العليا – مرفوعة علنية تم الحكم بتاريخ 2024/01/10

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

باسم الشعب

المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت السادس مــــن يناير سنة 2024م،
الموافق الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1445هـ.
برئاسة السيد المستشار / بولس فهمي إسكندر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: رجب عبد الحكيم سليم والدكتور محمد عماد النجار والدكتور طارق عبد الجواد شبل وخالد أحمد رأفت دسوقي والدكتورة فاطمة محمد أحمد الرزاز ومحمد أيمن سعد الدين عباس نواب رئيس المحكمة
وحضور السيدة المستشار/ شيرين حافظ فرهود رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد/ محمـد ناجي عبد السميع أمين السر
أصدرت الحكم الآتي
في الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 95 لسنة 43 قضائية
دستورية.
المقامة من
محمود حمادة محمد سيد
ضد
1- رئيس الجمهوريــــــــــــــة
2- رئيس مجلس الوزراء
3- رئيس مجلس النــواب
4- وزيـــــــــــــــر العـــــــــــــــــــــدل
5- الأمين العام لمحكمة شبرا الخيمـــــــــــة الابتدائيــــــــــــــــــــة
6- رئيس وحدة المطالبة بمحكمة شبرا الخيمة الابتدائية
7- رئيس محضري تنفيذ المطالبة بمحكمة شبرا الخيمة

الإجراءات
بتاريخ الثامن والعشرين من نوفمبر سنة 2021، أودع المدعي صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا الحكم بعدم دستورية نص المادة (243) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، فيما تضمنته من نظر المحكمة التي أصدرت الحكم، التماس إعادة النظر في الحالة السادسة من الحالات المنصوص عليها في المادة (241) من القانون ذاته.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وفيها قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة اليوم.
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل ـــ على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق ـــ في أن المدعي أقام أمام محكمة شبرا الخيمة الجزئية الدعوى رقم 7 لسنة 2021 مدني مستعجل حكومة، ضد المدعى عليهم من الرابع حتى الأخير، بطلب الحكم في الموضوع وبصفة مستعجلة: بإلغاء أمري تقدير الرسوم الصادرين في المطالبة رقم 618 لسنة 2020/2021، عن الدعوى رقم 1095 لسنة 2020 مدني كلي جنوب بنها؛ وذلك على سند من أنه بتاريخ 2/12/2020، أُعلن بأمري تقدير الرسوم النسبية ورسوم صندوق الخدمات السالفي البيان، في حين أن الحكم الصادر في تلك الدعوى لم يقض عليه بشيء، بما مؤداه براءة ذمته من هذه المطالبة. وبجلسة 28/7/2021، حكمت المحكمة بالطلبات. طعن المدعى عليهم في الدعوى الموضوعية، في ذلك الحكم أمام محكمة جنوب بنها الابتدائية بالاستئناف رقم 119 لسنة 2021 مدني مستعجل، وأثناء نظره دفع المدعى عليهم بعدم اختصاص القضاء المستعجل نوعيًّا بنظر الدعوى، وبجلسة 26/9/2021، قضت المحكمة بإلغاء الحكم المستأنف، والقضاء مجددًا بإحالة الدعوى بحالتها إلى قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة شبرا الخيمة الجزئية. طعن المدعي على الحكم السالف الذكر بطريـــــق التماس إعـادة النظـر أمام هيئة المحكمة التي أصدرته، طالبًا الحكم بإلغاء الحكم الملتمس فيه، والقضاء مجددًا برفض الاستئناف وتأييد الحكم المستأنف، تأسيسًا على وقوع تناقض في منطوق الحكم، على نحو يستعصي معه تنفيذه، وفقًا لنص البند رقم (6) من المادة (241) من قانون المرافعات المدنيــة والتجاريـة، وأثناء نظر الالتماس، قدم المدعي مذكرة ضمنها تناقض منطوق الحكم الملتمس فيه بعضه لبعض، طالبًا فيها أصليًّا: إحالة الدعوى إلى دائرة أخرى لنظرها، إعمالًا لنص المادة (146) من القانون المار ذكره، واحتياطيًّا: دفع بعدم دستورية نص المادة (243) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، فيما تضمنه من نظر المحكمة التي أصدرت الحكم التماس إعادة النظر، في الحالة الواردة في البند (6) من الحالات المنصوص عليها في المادة (241) من القانون ذاته، لمخالفته نص المادة (186) من الدستور، وتعارضه مع نص المادة (146) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت للمدعي برفع الدعوى الدستورية؛ فأقام الدعوى المعروضة. مضت المحكمة في نظر الالتماس، وبجلسة 26/12/2021، قضت بعدم قبول الالتماس، وبتغريم المدعي مبلغ مائتي جنيه.

وحيث إن المادة (241) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968 تنص على أن للخصوم أن يلتمسوا إعادة النظر في الأحكام الصادرة بصفة انتهائية في الأحوال الآتية:
1- ……………………………
6- إذا كان منطوق الحكم مناقضًا بعضه لبعض.
8- ………………………….
وتنص المادة (243) من القانون ذاته على أن يرفع الالتماس أمام المحكمة التي أصدرت الحكم بصحيفة تودع قلم كتابها وفقًا للأوضاع المقررة لرفع الدعوى.
………………………………
ويجوز أن تكون المحكمة التي تنظر الالتماس مؤلفة من نفس القضاة الذين أصدروا الحكم.
وحيث إن من المقرر في قضاء هذه المحكمة، أن مناط المصلحة الشخصية المباشرة في الدعوى الدستورية – وهي شرط لقبولها – أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة في الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل في المسألة الدستورية لازمًا للفصل في الطلبات المعروضة على محكمة الموضوع، وأنه يكفي لتوافر شرط المصلحة في الدعوى الدستورية أن يكون الحكم فيها مؤثرًا في مسألة كلية أو فرعية تدور حولها الخصومة في الدعوى الموضوعية، دون أن يمتد ذلك لبحث شروط قبول تلك الدعوى، أو مدى أحقية المدعي في الدعوى الدستورية في طلباته أمام محكمة الموضوع، التي تختص وحدها بالفصل فيها. متى كان ذلك، وكان النزاع المعروض على محكمة الموضوع يدور حول طعن المدعي أمام محكمة جنوب بنها الابتدائية، بالتماس إعادة النظر على الحكم الصادر منها بجلسة 26/9/2021، في الاستئناف رقم 119 لسنة 2021 مدني مستعجل، وذلك استنادًا إلى وقوع تناقض في منطوق ذلك الحكم، وهي الحالة المنصوص عليها في البند رقم (6) من المادة (241) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المار ذكره، وإذ شُكلت الدائرة التي نظرت الالتماس من نفس القضاة الذين أصدروا الحكم الاستئنافي – عدا واحدًا منهم – وفــــق ما أجازتــــه الفقــــرة الأخيرة من المــــادة (243) من القانون ذاته، ومن ثم فإن الفصل في دستورية هذه الفقرة وحدها، دون الفقرة الأولى من النص ذاته، إنما يرتب انعكاسًا أكيدًا على الطلبات المطروحة أمام محكمة الموضوع، في شأن تشكيل هيئة المحكمة التي تنظر التماس إعادة النظر في الحالة المشار إليها، مما تتوافر معه للمدعي مصلحة شخصية ومباشرة في الطعن بعـــــدم دستوريتها، ويتحــــــدد نطــــــاق الدعــــــوى الدستوريــــــة المعروضة، في نص الفقرة الأخيرة من المادة (243) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، في مجال سريانه على نص البند (6) من المادة (241) من القانون ذاته.
وحيث إن المدعي ينعى على النص المطعون فيه ــــــ في النطاق المحدد سلفًا ـــــ مخالفته مبدأ المساواة أمام القانون، وإخلاله بحق التقاضي، والحق في المحاكمة المنصفة أمام محكمة يتسم قضاتها بالحيدة، ولم يسبق لهم نظر الدعوى وتكوين رأي فيها، لا سيما أن الحالة المعروضة بالبند المشار إليه ترجع إلى خطأ القاضي الشخصي، الأمر الذي يخالف المواد (97 و184 و186) من دستور 2014، فضلًا عن تعارضه مع نص المادتين (146 و147) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، لعدم صلاحية الهيئة التي أصدرت الحكم الملتمس فيه لنظر الالتماس؛ لسبق نظرها الاستئناف والحكم فيه.

وحيث إنه عما نعى به المدعي من تعارض النص المطعون فيه مع نص المادتين (146 و147) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المشار إليه، فيما تضمنه أولهما في بنده الخامس من أن يكون القاضي غير صالح لنظر الدعـــوى، ممنوعًا من سماعها ولو لم يرده أحـــــد الخصـــــوم، إذا كان قـــد سبــق له نظرهـــــا قاضيًا، وما تضمنه ثانيهما من أن يقع باطلًا عمل القاضي وقضاؤه في هذه الحالة ولو تم باتفاق الخصوم، فإن هذا النعي مردود بأن من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن مناط اختصاصها بالفصل في دستورية القوانين واللوائــــــح أن يكــــــون مبنى الطعــــــن هــــــو مخالفة التشريع لنص دستــــــوري، ولا شأن لها بالتعارض بين نصين تشريعيين جمعهما قانون واحد أو تفرقا بين قانونين مختلفين، ما لم يكن هذا التعارض منطويًــا ــــ بذاته ــــ على مخالفة دستورية. متى كان ذلك، وكان هــــــذا النعي ــــ أيًّـــــــا كان وجــــه الــــرأي فــــي قيــــــام هذا التعارض من عدمـــــــــه ـــــ لا يعدو أن يكون نعيًا بمخالفــــــــة نص تشريعي لنصين تشريعيين جمعهما قانون واحد، وهو ما لا تمتد إليه ولاية هذه المحكمة، ولا يشكل بذلك خروجًــا على أحكام الدستور، ومن ثم فإن المحكمة تلتفت عنه.
وحيث إن المقرر قانونًا أن التماس إعادة النظر هو طريق غير عادى للطعن في الأحكام الصادرة بصفة انتهائية، يُرفع أمام المحكمة التي أصدرت الحكم المطعون فيه، إذا تحقق سبب أو أكثر من الأسباب التي حددتها المادة (241) من قانون المرافعات المدنية والتجارية على سبيل الحصر، وهو لا يستهدف إصلاح الحكم موضوع الالتماس ولا يُقصد به تجريحه، وإنما يرمي إلى محو الحكم ذاته، ليعود مركز الملتمس في الخصومة إلى ما كان عليه قبل صدوره، ومواجهة النزاع من جديد للحصول على حكم آخر، بعد أن يتم التخلص من حجية الأمر المقضي. وبهذه المثابة وسَّد المشرع الاختصاص بنظر الالتماس إلى المحكمة ذاتها التي أصدرت الحكم المطعون فيه، باعتبار أن الطعن بهذا الطريق قد شُرع لتصويب ما شاب هذه الأحكام من تقديرات جانبها الصواب، مردها إلى الغش الذي أُدخِل على المحكمة في صور عدة، أبانت غالب حالاتها المادة (241) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، لترتبط تلك التقديرات بقضاء المحكمة ارتباط السبب بالمسبب مما أدى إلى التأثير في تقدير المحكمة، بحيث ما كان لهذا القضاء أن يصدر على النحو الذي صدر به، لو لم يقع في حومة ذلك الغش، ومع ذلك، وبالمخالفة لهذا الأصل، فإن المشرع في المادة (241) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المار ذكرها، جعل من بين أسباب الالتماس عيوبًا لا تتعلق بتقدير الوقائع، وإنما بخطأ في الحكم لم يطرأ بعد صدوره، بل علق به منذ نشأته، عائدًا إلى مسلك المحكمة ذاتها، ومن بين تلك الأسباب الحالة الواردة بالبند رقم (6) من تلك المادة، بشأن تناقض منطوق الحكم بعضه لبعض، والفرض في قيام الطعن بالالتماس لهذا الوجه أن التناقض لا يمكن رفعه بطريق التفسير طبقًا لما تنص عليه المادة (192) من القانون ذاته، ويعتبر الحكم الذي اعتراه هذا العيب باطلًا، كون تناقض المنطوق يساوي خلوه منه، إذ لا يمكن للحكم في الحالتين أن يحقق وظيفته، الأمر الذي تفارق معه تلك الحالة الأساس الذي قام عليه طريق التماس إعادة النظر، المتمثل في أن العيب الذي لحق بالحكم ليس لكونه لم يأت مطابقًا لإرادة القانون، وإنما لكون الوقائع التي ابتُنِيَ عليها مخالفة للحقيقة؛ مما أثر في تقدير المحكمة، وهو ما دعا التشريعات المقارنة، ومن بينها قانونا المرافعات الإيطالي والفرنسي، إلى استبعاد أسباب البطلان من حالات التماس إعادة النظر.
وحيث إن المسألة الدستورية المعروضة – دون الخوض في باقي حالات التماس إعادة النظر المنصوص عليها في المادة (241) من قانون المرافعات المدنية والتجارية – إنما تتحصل في جواز نظر الالتماس من هيئة محكمة مؤلفة من نفس القضاة – أو بعض منهم – الذين أصدروا الحكم الملتمس فيه، المنعي عليه بتناقض منطوقه بعضه لبعض، على نحو يوجب القضاء بإلغائه، فيما لو صح النعي عليه بالسبب المتقدم بيانه، بما لذلك من أثر على مبدأ تجرد القاضي وحيدته، واطمئنان المتقاضي إلى تحقق الأمرين معًا أثناء نظر الالتماس.

وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن استقلال السلطة القضائية المنصوص عليه في المادة (184) من الدستور، وإن كان لازمًا لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التي يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم وحرياتهم. إلا أن حيدة تلك السلطة – التي حرص الدستور القائم على النص عليها في المـــــادة (186) منه – تُعـــــد عنصرًا فاعلًا في صـــــون رسالتها لا يقل شأنًا عن استقلالها، بما يؤكد تكاملهما، ذلك أن استقلال السلطة القضائية يعني أن تعمل بعيدًا عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواءً أو إرغامًا، ترغيبًا أو ترهيبًا، فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق تحاملًا من جانبهم على أحد الخصوم وانحيازًا لغيره، كان ذلك منافيًا لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، ولحقيقة أن العمل القضائي لا يجوز أن يثير ظلالًا قاتمة حول حيدته، فلايطمئن إليه متقاضون داخلهم الريب فيه، بعد أن صار نائيًا عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية. يؤيد ذلك:
أولًا: إن إعلان المبادئ الأساسية في شأن استقلال القضاة التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراريها الصادرين في 29/11/1985، و13/12/1985، يؤكدان أن القضاة يفصلون ــــ في إطار من الحيدة ـــــ فيما يعرض عليهم من منازعات على ضوء وقائعها ووفقًا للقانون، غير مدفوعين بتحريض، أو معرضين لتدخل بلا حق، أو مُحملين بقيود، أو ضغوط، أو تهديد ـــــ مباشرًا كان أو غير مباشر ـــــ أيَّا كان مصدرها أو سببها. وذلك بمراعاة أن القواعد التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذا النحو، وإن لم تكن لها قوة إلزامية تكفل التقيد بها، إلا أن النزول عليها ما زال التزامًا أدبيًّا وسياسيًّا، وهي فوق هذا، تعبر عن اتجاه عام فيما بين الدول التي ارتضتها، يتمثل في توافقها على تطبيقها.
ثانيًا: إن استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة، وإن كفلتهما المادتان (184، 186) من الدستور، توقيًا لأي تأثير محتمل قد يميل بالقاضي عن ميزان الحق، إلا أن الدستور نص كذلك على أنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون. وهذا المبدأ الأخير لا يحمي فقط استقلال القاضي، بل يحول كذلك دون أن يكون العمل القضائي وليد نزعة شخصية غير متجردة، وهو أمر يقع – غالبًا- إذا فصل القاضي في نزاع سبق أن أبدى فيه رأيًا؛ ومن ثم تكون حيدة القاضي شرطًا لازمًا دستوريًّا لضمان ألّا يخضع في عمله لغير سلطان القانون.

ثالثًا: إن انصباب ضمانتي استقلال السلطة القضائية وحيدتها معًا على إدارة العدالة ضمانًا لفعاليتها، مؤداه بالضرورة تلازمهما، فلا ينفصلان. ومن غير المتصور أن يكون الدستور نائيًا بالسلطة القضائية عن أن تقوض بنيانها عوامل خارجية تؤثر في رسالتها، وأن يكون إيصالها الحقوق لذويها مهددًا بالتواء ينال من حيدة وتجرد رجالها، وإذا جاز القول ــــ وهو صحيح ــــ بأن الفصل في الخصومة القضائية ــــ حقًّا وعدلًا ــــ لا يستقيم إذا داخلتها عوامل تؤثر في موضوعية القرار الصادر عنها، أيًّا كانت طبيعتها وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها، فقد صار أمرًا مقضيًّا أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها في مجال اتصالهما بالفصل في الحقوق انتصافًا، ترجيحًا لحقيقتها القانونية، لتكون لهما معًا القيمة الدستورية ذاتها، فلا تعلو إحداها على أخراها أو تجُبها، بل يتضاممان تكاملًا، ويتكافآن قدرًا.
رابعًا: إن ضمانة المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور بنص المادة (96)، تعني
– وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يكون لكل خصومة قضائية قاضيها، ولــو كانت الحقــــوق المثـــــارة فيهـــا من طبيعــــة مدنيــــة، وأن تقــــوم على الفصــل فيها ــــ علانية وإنصافًا ــــ محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون، يتمكن الخصم في إطارها من إيضاح دعواه، وعرض أدلتها، والرد على ما يعارضها من أقوال غرمائه أو حججهم على ضوء فرص يتكافأون فيها جميعًا، ليكون تشكيلها، وقواعد تنظيمها، وطبيعة النظم المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملًا مُحددًا للعدالة مفهومًا تقدميًّا يلتئم مع المقاييس المعاصرة للدول المتحضرة.
خامسًا: إن حق التقاضي المنصوص عليه في المادة (97) من الدستور، مؤداه: أن لكل خصومة ــــ في نهاية مطافها ــــ حلًّا منصفًا يمثل الترضية القضائية التي يقتضيها رد العدوان على الحقوق المدعى بها، وتفترض هذه الترضية أن يكون مضمونها موافقًا لأحكام الدستور، وهي لا تكون كذلك إذا كان تقريرها عائدًا إلى جهة أو هيئة تفتقر إلى استقلالها أو حيدتها أو هما معًا. ذلك أن هاتين الضمانتين ـــــ وقد فرضهما الدستور على ما تقدم ــــ تعتبران قيدًا على السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق. ومن ثم يلحق البطلان كل تنظيم تشريعي للخصومة القضائية على خلافهما.

وحيث إن الدستور قد اعتمد نص المادة (4) منه مبدأ العدل، باعتباره – إلى جانب مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص – أساسًا لبناء المجتمع وصون وحدته الوطنية، يستلهمه المشرع وهو بصدد مباشرة سلطته في التشريع. وإذا كان الدستور – على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة – قد خلا من تحديد معنى العدالة، فإن المقصود بها ينبغي أن يتمثل فيما يكون حقًّا وواجبًا، سواء في علائق الأفراد فيما بينهم، أو في نطاق صلاتهم بمجتمعهم، بما مؤداه أن العدالة – في غايتها – لا تنفصل علاقاتها بالقانون باعتباره أداة تحقيقها، فلا يكون القانون منصفًا إلا إذا كان كافلًا لأهدافها، فإذا ما زاغ المشرع ببصره عنها، وأهدر القيم الأصيلة التي تحتضنها، كان مُنهيًا للتوافق في مجال تنفيذه، ومسقطًا كل قيمة لوجوده، ومستوجبًا تغييره أو إلغاءه.

وحيث إن القيود التي فرضها الدستور على سلطة المشرع التقديرية في تنظيم الحقوق ــــ ومن بينها صون ضمانة الحيدة ــــ تعتبر حدًّا لتلك السلطة ترسم تخومها، وتبين ضوابطها، فلا يجوز الخروج عليها، لتظل الدائرة التي لا يتنفس الحق أو الضمانة محل الحماية إلا من خلالها، بعيدة عن عدوان السلطة التشريعية، فلا تنال منها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها.
وحيث إنه متى كان ما تقـــــــدم، وكان مــــن المقرر أن مبدأ خضـــوع الدولــــــة للقانون ــــ محددًا على ضوء مفهوم ديمقراطي ــــ مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق والضمانات التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية، مفترضًا أوليًّا لقيام الدولة القانونية، ومن ثم فلا يجوز أن يكون العمل القضائي موطئًا لشبهة تداخل تجرده، وتثير ظلالًا قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون استرابوا فيه، بعد أن صار نائيًا عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية، وكان لا يتصور ــــ والنفس بطبيعتها لا تميل إلى تخطئة تصرفاتها ــــ أن تنظر هيئة المحكمة بذات تشكيلها، أو بعض من أعضائها، التماس إعادة النظر في الحكم الصادر عنها، مبلورةً به قضاءً انتهت إليه، وأبانته في منطوق حكمها المنعي عليه بتناقض بعضه لبعض، وهو على ما تقدم، إن صادف صحة واقتضى قبولًا، يُعد إقرارًا بخطأ الحكم، مفضيًا إلى إبطاله لسبب لازمه عند صدوره، وما يتأدى إليه ذلك من وجوب إلغاء الهيئة ذاتها لحكمها، بمراعاة ما قد تختلج به صدور فئة من قضاة الالتماس – قليلة كانت أم كثيرة – من وصم قضائها بالبطلان، ومن ثم لم يجز، انتصافًا لضمانة الحيدة وتوكيدًا لها، وضنًّا بأحكام القضاء من أن تعلق بها استرابة المتقاضين، أن تكون هيئة محكمة التماس إعادة النظر – أو أي من أعضائها – ممن شاركوا في إصدار الحكم الملتمس فيه، وكان النص المطعون فيه، في النطاق المحدد سلفًا، قد جرى على غير هذا المنحى، فإنه يكون مخالفًا لأحكام المواد (4 و94/2 و96 و97 و184 و186) من الدستور، مما لزامه القضاء بعدم دستوريته.
وحيث إن محكمة الموضوع بعد تقديرها لجدية الدفع المثار من المدعي، وتصريحها له باتخاذ إجراءات رفع الدعوى الدستورية، وإقامته لها على ما تقدم بيانه، عادت لنقض قرارها هذا، ثم مضت في نظر الالتماس وقضت فيه بجلسة 26/12/2021، بعدم قبول الالتماس، وهو ما يعتبر عدوانًا من جانبها على الولاية التي أثبتها الدستور للمحكمة الدستورية العليا. ذلك أن الأصل المقرر قانونًا ــــ وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة ــــ أن اتصال الخصومة الدستورية بها من خلال رفعها إليها وفقًا للأوضاع المنصوص عليها في قانونها، يعنى دخولها في حوزتها لتهيمن عليها وحدها، فلا يجوز بعد انعقادها، أن تتخذ محكمة الموضوع إجراءً، أو تصدر حكمًا يحول دون الفصل في المسائل الدستورية التي تثيرها. إذ إن الدفع بعدم الدستورية الذى طُرح أمام محكمة الموضوع، كان محركًا للخصومة الدستورية، وعليها بعد تقديرها لجديته، وتعلُّق المسائل الدستورية التي أثارها بالمحكمة الدستورية العليا، أن تتربص قضاءها فيها باعتباره فاصلًا في موضوعها، كاشفًا عن النصوص القانونية التي ينبغي تطبيقها في النزاع الموضوعي، بما مؤداه: أنه فيما عدا الأحوال التي تنتفى فيها المصلحة في الخصومة الدستورية بقضاء من المحكمة الدستورية العليا، أو التي ينزل فيها خصم عن الحق في دعواه الموضوعية من خلال تركها وفقًا للقواعد المنصوص عليها في قانون المرافعات، أو التي يتخلى فيها عن دفع بعدم الدستورية سبق لها تقدير جديته، أو التي يكون عدول محكمة الموضوع فيها عن تقديرها لجدية دفع بعدم الدستورية، مبناه إعمالها للآثار المترتبة على قضاء المحكمة الدستورية العليا في شأن النصوص ذاتها التي قام عليها هذا الدفع سواء بتقرير هذه المحكمة لصحتها أو بطلانها، فإن على محكمة الموضوع أن تلتزم قضاءها بتقدير جدية الدفع فلا تنحيه، وإلا كان ذلك نكولًا من جانبها عن التقيد بنص المادة (192) من الدستور التي تخول المحكمة الدستورية العليا دون غيرها، الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، وتسليطًا لقضاء أدنى على قضاء أعلى، بما يناقض الأسس الجوهرية التي يقوم التقاضي عليها، وتعطيلًا للضمانة المنصوص عليها في المادة (97) من الدستور، وما يتصل بها من حق اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في المسائل الدستورية التي اختصها الدستور بها، بوصفها قاضيها الطبيعي، ولأن القواعد التي ينتظمها الدستور، هي التي يتعين ترجيحها فى النزاع الموضوعي، إذا عارضتها قاعدة قانونية أدنى نزولًا على مبدأ خضوع الدولة للقانون، على ما تقضى به المادة (94) من الدستور. متى كان ذلك، وكان إنفاذ نصوص الدستور السابق بيانها، يقتضى ألا تعاق المحكمة الدستورية العليا بقرار من محكمة الموضوع، عن مباشرة ولايتها التي لا يجوز لها أن تتخلى عنها، وإلا كان ذلك منها تحريفًا لاختصاصها، وإهدارًا لموقعها من البنيان القانوني للنظام القضائي في مصر، وتنصلاً من مسئولياتها التي أولاها الدستور أمانتها، وكان الحكم الصادر من محكمة الموضوع في النزاع المعروض عليها، وإن ترتب عليه انحسار ولايتها بشأنه، إلا أن تعلق الخصومة الدستورية بالمحكمة الدستورية العليا قبل صدور الحكم المشار إليه ووفقًا لقانونها، والتزامها دستوريًّا بأن تقول كلمتها فيها، يقتضيها إسباغ الولاية من جديد على محكمة الموضوع لتفصل في النزاع الذى كان مطروحًا عليها على ضوء قضاء المحكمة الدستورية العليا في الدعوى المعروضة، ودون التقيد بالحكم الصادر عنها في النزاع الموضوعي.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص الفقرة الأخيرة من المادة (243) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، في مجال سريانه على البند رقم (6) من المادة (241) من القانون ذاته، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
أمين السر رئيس المحكمة

اترك تعليقاً