توحيد المباديء:وجوب توقيع الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة على اتفاق (مشارطة) التحكيم، دون غناء عن ذلك بموافقتهم المبدئية على الالتجاء إلى التحكيم لفض النزاع المثار.

جلسة 5 من مارس سنة 2016
الطعن رقم 8256 لسنة 56 القضائية (عليا)
(دائرة توحيد المبادئ)
برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ محمد عبد العظيم محمود سليمان نائب رئيس مجلس الدولـة
وعضوية السادة الأسـاتذة المستشارين/ أحمد عبد العزيز إبراهيم أبو العزم، ود.هانئ أحمد الدرديري، ود.عبد الفتاح صبري أبو الليل، ومحمد عبد الحميد عبد اللطيف، وبخيت محمد محمد إسماعيل، وسالم عبد الهادي محروس جمعة، ولبيب حليم لبيب، ويحيى خضري نوبي محمد، وأحمد إبراهيم ذكي الدسوقي، وفارس سعد فام. نواب رئيس مجلس الدولـة 
——————– 
الوقائع
بتاريخ 28/1/2010 أودع الأستاذ/… المحامي، وكيلا عن الطاعن بصفته، قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقريرا، قيد بجدولها العام برقم 8256 لسنة 56 القضائية (عليا)، في حكم التحكيم الصادر بتاريخ 18/8/2009، الذي قضى بإجماع الآراء: (أولا) بأحقية الشركة المحتكمة في التعويض عن الأضرار المادية والأدبية، وعما فاتها من كسب وما لحقها من خسارة، مقداره 50712810,34 جنيهات (فقط خمسون مليونا وسبع مئة واثنا عشر ألفا وثمان مئة وعشرة جنيهات، و34/100 قرشا)، على النحو الوارد تفصيلا بالأسباب، ورفض ما عدا ذلك من طلبات التعويض. و(ثانيا) إجراء المقاصة فيما بين الشركة المحتكمة والهيئة المحتكم ضدها وذلك بخصم مبلغ 10638899 جنيها مصريا (فقط عشرة ملايين وست مئة وثمانية وثلاثون ألفا وثمان مئة وتسعة وتسعون جنيها”، من قيمة التعويض المقضي به، ومن ثم تلتزم الهيئة المحتكم ضدها بأن تدفع للشركة المحتكمة مبلغ 40073911,34 جنيها (فقط أربعون مليونا وثلاثة وسبعون ألفا وتسع مئة وأحد عشر جنيها وأربعة وثلاثون قرشا) تمثل باقى التعويضات المستحقة لها. و(ثالثا) إلزام الهيئة المحتكم ضدها تسليم خطابات الضمان المقدمة من الشركة المحتكمة والصادرة عن كل من بنكي الأهلي فرع مصر الجديدة، والاستثمار فرع القاهرة، إلى الشركة المحتكمة. و(رابعا) إلزام طرفي التحكيم مصروفات التحكيم وأتعاب المحكمين مناصفة بينهما.
وطلب الطاعن بصفته –للأسباب المبينة بتقرير الطعن– الحكم بصفة عاجلة بوقف تنفيذ الحكم من دائرة فحص الطعون، وبقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء مجددا ببطلان هذا الحكم، مع إلزام الشركة المطعون ضدها المصروفات وأتعاب المحاماة, وذلك من دائرة الموضوع.

وجرى إعلان الطعن إلى المطعون ضده بصفته على النحو الموضح بمحضر الإعلان. وعينت لنظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون جلسة 15/2/2010، وتدوول نظره على النحو المبين بمحاضر الجلسات، وخلالها أودعت هيئة مفوضي الدولة تقريرا مسببا بالرأي القانوني، ارتأت فيه الحكم بعدم قبول الطعن وإلزام الطاعن بصفته المصروفات، وقدم الحاضر عن الهيئة الطاعنة مذكرتي دفاع وحافظتي مستندات، وقدم الحاضر عن الشركة المطعون ضدها مذكرتي دفاع.
وبجلسة 21/2/2011 قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة 18/4/2011، وفيها قررت إحالة الطعن إلى الدائرة الأولى (موضوع) لنظره بجلسة 14/5/2011، وتدوول نظره أمام هذه الدائرة على النحو الموضح بمحاضر الجلسات، وخلالها قدم الحاضر عن الشركة مذكرة دفاع وحافظة مستندات، وبجلسة 26/10/2013 قررت المحكمة إحالة الطعن إلى الدائرة المنصوص عليها في المادة 54 مكررا من قانون مجلس الدولة (الصادر بالقرار بقانون رقم 47 لسنة 1972، المعدل بالقانون رقم 136 لسنة 1984) لما ارتأته المحكمة (الدائرة الأولى موضوع) من أنه يتعين لقيام وصحة مشارطة التحكيم في منازعات العقود الإدارية موافقة الوزير –أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة– عليها، دون الاكتفاء بموافقته على اختيار ولوج طريق التحكيم، ما لم يتضمن المحرر الذي تمت على أساس ما تضمنه الموافقة على اللجوء إلى التحكيم، تحديدا لموضوع التحكيم وجميع المسائل التي يشملها التحكيم، وإلا كانت المشارطة باطلة، وكان من ثم حكم التحكيم باطلا؛ لتوفر حالة من حالات بطلانه المنصوص عليها في المادة (53) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية (الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، المعدل بالقانون رقم 9 لسنة 1997)، خلافا لما ذهبت إليه الدائرة الثالثة بالمحكمة الإدارية العليا بحكمها الصادر في الطعن رقم 3603 لسنة 48 ق.ع من أنه ليس من شأن عدم موافقة وتوقيع المحافظ –باعتباره يتولى اختصاصات الوزير قانونا– على مشارطة التحكيم بطلانها؛ اكتفاء بإذنه وموافقته على اختيار طريق التحكيم، وهو ما استلزم وضع المبدأ الأولى بالتطبيق فى هذا الشأن.

وحددت لنظر الطعن أمام دائرة توحيد المبادئ جلسة 1/2/2014، وتدوول نظره بالجلسات على النحو الوارد بمحاضرها، حيث أودعت هيئة مفوضي الدولة تقريرا مسببا بالرأي القانوني ارتأت فيه ترجيح الاتجاه الذي من مقتضاه أنه يتعين لصحة مشارطة التحكيم موافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية الأخرى دون كفاية الموافقة على اختيار ولوج طريق التحكيم، وقدم الحاضر عن الهيئة الطاعنة مذكرتي دفاع، وقدم الحاضر عن الشركة أربع مذكرات دفاع، دفع في إحداها ببطلان قرار المحكمة (دائرة الموضوع) بإحالة الطعن إلى دائرة توحيد المبادئ؛ لتوقيعه من عضو واحد، كما قدم حافظة مستندات، وبجلسة 7/11/2015 قررت الدائرة إصدار الحكم بجلسة 6/2/2016، وقد جرى مد أجل النطق بالحكم لجلسة 5/3/2016 لإتمام المداولة، حيث صدر الحكم بجلسة اليوم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به. 
——————- 
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات, وبعد المداولة.
وحيث إن عناصر المنازعة تتحصل في أن نزاعا نشأ بين الشركة المطعون ضدها والهيئة الطاعنة بشأن عمليات المقاولات المسند تنفيذها للشركة، بالقيام بقطع تباب الرمال والأتربة بمناطق امتداد مدينة القاهرة الجديدة واستخدامها في ردم وتسوية محجر غرب الجولف، وذلك بموجب أوامر الإسناد أرقام 2673 بتاريخ 25/6/2004، 2677 بتاريخ 25/9/2004، و52 بتاريخ 12/3/2005، وقد استمر العمل من قبل الشركة تحت إشراف مباشر من جهاز القاهرة الجديدة، إلا أنه بتواريخ 27/9/2005 و20/11/2005 و20/4/2006 أخطرت الشركة من قبل الجهاز المذكور بوقف الأعمال موضوع أوامر الإسناد المشار إليها, ثم قامت الهيئة بإنهاء هذه الأعمال، وتم تسلم ما تم من أعمال بعد تحديد نسبة الإنجاز، وإزاء مطالبة الشركة بالتعويض، انتهت اللجنة التي تم تشكيلها لدراسة الموضوع وتحديد قيمة التعويض المستحق للشركة إن كان لها حق في ذلك إلى إمكانية تعويضها بمبلغ 19883615 جنيها (تسعة عشر مليونا وثمان مئة وثلاثة وثمانين ألفا وست مئة وخمسة عشر جنيها)، مع خصم رصيد الدفعات المقدمة بمبلغ 10638899 جنيها (عشرة ملايين وست مئة وثمانية وثلاثين ألفا وثمان مئة وتسعة وتسعين جنيها”، إلا أن الشركة لم توافق، ثم طلبت من السيد الوزير الموافقة على التحكيم لحسم النزاع بينها وبين الهيئة، فوافق على ذلك، وتم إبرام مشارطة تحكيم بين طرفي النزاع بتاريخ 19/3/2009 قام بتوقيعها عن الهيئة السيد نائب رئيس الهيئة للشئون الاقتصادية والمالية والإدارية بموجب قرار تفويض في ذلك صادر برقم 134 لسنة 2009 بتاريخ 19/3/2009، ثم تدوول النزاع أمام هيئة التحكيم التي تم تشكيلها على وفق ما تضمنته المشارطة، والتي أصدرت حكمها بتاريخ 18/8/2009 المطعون عليه بالبطلان لأسباب محصلها بطلان مشارطة التحكيم لتوقيعها من السيد نائب رئيس الهيئة للشئون الاقتصادية والمالية والإدارية بموجب قرار التفويض الصادر عن وزير الإسكان (بصفته رئيس مجلس إدارة الهيئة) بالمخالفة للمادة (1) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية، الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، المعدل بالقانون رقم 9 لسنة 1997، والتي استلزمت أن يكون اتفاق التحكيم في العقود الإدارية بموافقة الوزير وعدم جواز التفويض في هذا الاختصاص، دون جواز التحدي بأن المشارطة تضمنت الإشارة إلى موافقة الوزير على طلب الشركة عرض النزاع على هيئة تحكيم للفصل فيه، لأن هذه الموافقة لا تعني بحال أن تكون (اتفاق تحكيم) على وفق مقصود المشرع، الذي حظر التفويض؛ بحسبان أن محله الاتفاق (المشارطة)، وما تتضمنه من بنود واشتراطات تتعلق بموضوع النزاع، وهو أمر لا يملكه إلا الوزير.

ويضاف إلى ذلك أن مشارطة التحكيم لم يتم استفتاء إدارة الفتوى المختصة على وفق حكم قانون مجلس الدولة بشأنها، فضلا عن أن حكم التحكيم المطعون فيه صدر مشوبا بانعدام التسبيب وما ورد به من تسبيب جاء خاطئا وغير جدي، كما أن تقدير التعويض جاء على غير سند صحيح من القانون.
– وحيث إنه تبين للدائرة الأولى (موضوع) بالمحكمة الإدارية العليا أثناء نظرها للطعن أن هناك حكما للدائرة الثالثة بها في الطعن رقم 3603 لسنة 48 ق.ع صادرا بجلسة 17/5/2005 ذهب إلى أنه ليس من شأن عدم توقيع المحافظ –باعتباره من يتولى اختصاصات الوزير قانونا– على مشارطة التحكيم بطلانها، ومن ثم بطلان حكم التحكيم الصادر بناء عليها؛ إذ إن المشرع استهدف بتعديل المادة (1) من قانون التحكيم بالقانون رقم 9 لسنة 1997 (التي تضمنت أنه بالنسبة لمنازعات العقود الإدارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، دون جواز التفويض في ذلك) –استهدف– أن يكون تقرير اللجوء إلى التحكيم بطريق اختياري بالنسبة لمنازعات العقود الإدارية –دون محاكم مجلس الدولة– بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، وإنه لا شك أن موافقته على اختيار هذا الطريق تكفي لتحقيق قصد المشرع من هذا الإجراء الجوهري، وليس بلازم أن يوقع أو يوافق بعد ذلك على مشارطة التحكيم باعتبارها تستمد شرعيتها أصلا من الموافقة السابقة، التي تتضمن عادة الاتفاق على أسماء المحكمين والإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم أثناء نظرها النزاع والموضوعات محل الخلاف بين الطرفين، والتي سيتم الفصل فيها، وهي لاشك قد تزيد أو تنقص حتى حجز دعوى التحكيم للحكم، وذلك تبعا لما اتفق عليه الطرفان في هذا الشأن.
بينما تراءى للدائرة الأولى -استنباطا من أحكام قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية وما تؤدي إليه لاسيما الفقرة الثانية من المادة (1) منه المضافة بالقانون رقم 9 لسنة 1997- أنه يلزم لقيام وصحة مشارطة التحكيم في منازعات العقود الإدارية موافقة الوزير-أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة- عليها دون الاكتفاء بموافقته على اختيار ولوج طريق التحكيم، ما لم يتضمن المحرر الذي تمت على أساس ما تضمنه الموافقة على اللجوء للتحكيم تحديدا لموضوع النزاع وجميع المسائل التي يشملها التحكيم، ومن ثم تكون المشارطة باطلة إذا لم تتم الموافقة عليها بتوقيعها من الوزير المختص أو ممن خوله المشرع ذلك بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة.
 
………………………
– وحيث إنه عما أثارته الشركة المطعون ضدها من بطلان قرار إحالة الطعن إلى هذه الدائرة لتوقيعه من رئيس دائرة الموضوع آنئذ دون باقي أعضاء الدائرة، فإن المادة رقم (54 مكررا) من قانون مجلس الدولة (الصادر بالقانون رقم 47 لسنة 1972 المعدل بالقانون رقم 136 لسنة 1984) إذ تنص على أنه: “إذا تبين لإحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا عند نظر أحد الطعون أنه صدرت منها أو من إحدى دوائر المحكمة أحكام سابقة يخالف بعضها البعض، أو رأت العدول عن مبدأ قانوني قررته أحكام سابقة صادرة من المحكمة الإدارية العليا، تعين عليها إحالة الطعن إلى هيئة تشكلها الجمعية العامة لتلك المحكمة في كل عام قضائي من أحد عشر مستشارا، برئاسة رئيس المحكمة أو الأقدم فالأقدم من نوابه…”، فإن المشرع لم يستلزم أن تكون إحالة الطعن إلى الدائرة المشكلة على وفق هذا النص –عند توفر موجب الإحالة– بحكم موقع من رئيس الدائرة المحيلة وأعضائها، وذلك لخلو النص من استلزام ذلك صراحة أو دلالة، ومن ثم تكون الإحالة بقرار موقع من رئيس الدائرة متفقة وصحيح حكم القانون، ويكون الدفع ببطلان قرار إحالة الطعن الماثل إلى هذه الدائرة مجانبا صائب حكم القانون، مما يتعين معه الالتفات عنه.
– وحيث إن المسألة القانونية المثارة محل الخلف تتحدد في مدى وجوب موافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة على اتفاق (مشارطة) التحكيم نفسه، والأثر المترتب على عدم توقيعه عليه عند وجوب ذلك.

وحيث إن المادة (1) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية (الصادر بالقانون رقم 27 لسنة 1994، المعدل بموجب القانون رقم 9 لسنة 1997) تنص على أنه: “مع عدم الإخلال بأحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها في جمهورية مصر العربية، تسري أحكام هذا القانون على كل تحكيم بين أطراف من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص أيا كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع إذا كان هذا التحكيم يجري في مصر أو… وبالنسبة إلى منازعات العقود الإدارية يكون الاتفاق على التحكيم بموافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجوز التفويض في ذلك”.
وتنص المادة (10) على أن: “1- اتفاق التحكيم هو اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة، عقدية كانت أو غير عقدية. 2- يجوز أن يكون اتفاق التحكيم سابقا على قيام النزاع، سواء قام مستقلا بذاته أو ورد فى عقد معين بشأن كل أو بعض المنازعات التي قد تنشأ بين الطرفين، وفي هذه الحالة يجب أن يحدد موضوع النزاع فى بيان الدعوى المشار إليه في الفقرة الأولى من المادة (30) من هذا القانون،كما يجوز أن يتم اتفاق التحكيم بعد قيام النزاع، ولو كانت قد أقيمت في شأنه دعوى أمام جهة قضائية، وفي هذه الحالة يجب أن يحدد الاتفاق المسائل التي يشملها التحكيم وإلا كان الاتفاق باطلا…”.
وتنص المادة (12) على أنه: “يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبا وإلا كان باطلا، ويكون اتفاق التحكيم مكتوبا إذا تضمنه محرر وقعه الطرفان، أو إذا تضمن ما تبادله الطرفان من رسائل أو برقيات أو غيرها من وسائل الاتصال المكتوبة”.
 
ومفاد ذلك أن المشرع أجاز لطرفي أية علاقة قانونية إبرام اتفاق بأن يكون الفصل في المنازعات التي تكتنف هذه العلاقة بطريق التحكيم، سواء كان طرفا هذه العلاقة من أشخاص القانون العام أو القانون الخاص، موجبا موافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة على اتفاق التحكيم الذي يبرم للفصل في منازعات العقود الإدارية بهذا الطريق، دون أن يكون جائزا لأي منهم التفويض في ذلك، وقد حدد المشرع المقصود باتفاق التحكيم بأنه اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة العلاقة القانونية التي تربطهما، عقدية كانت أو غير عقدية، مجيزا أن يكون هذا الاتفاق سابقا على قيام النزاع أو أن يكون لاحقا لقيامه، مستلزما إذا كان الاتفاق تاليا لقيام النزاع أن يتضمن تحديدا لجميع المسائل التي يشملها التحكيم، وإلا كان الاتفاق بخلوه من تحديدها باطلا، وهو ما استوجب المشرع معه أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبا، ويتحقق ذلك بأن يتضمنه محرر موقع من طرفيه أو تتضمنه وسيلة من وسائل الاتصال المكتوبة المتبادلة بينهما كالرسائل والبرقيات، فإذا لم يكن الاتفاق مكتوبا كان باطلا.
ومقتضى ذلك أن المشرع حدد مقصودا اصطلاحيا لاتفاق التحكيم على نحو ما سلف ذكره، مما لا مرية معه في أن هذا الاتفاق ما هو إلا ذلك العقد الذي يبرم بإرادة طرفيه، متضمنا تلاقي إرادتهما بموافقتهما على الالتجاء إلى التحكيم، نقلا للاختصاص بالفصل في النزاع الذي يبرم الاتفاق بشأنه من القضاء المختص إلى هيئة التحكيم، ومتضمنا كذلك –متى كان إبرامه تاليا على نشوء النزاع (مشارطة التحكيم)– جميع المسائل التي يشملها التحكيم، ولكون هذا العقد (اتفاق التحكيم) متعلقا بالولاية والاختصاص القضائي، نأيا بهما عن بسطهما بشأن هذا النزاع استلزم المشرع لانعقاده أن يكون مكتوبا، بما يومئ بجلاء إلى أن الكتابة شرط انعقاد لهذا الاتفاق، وبما كان لزاما معه أن يكون البطلان هو جزاء عدم استيفائه، ومن ثم كان حتما قانونيا أن يتضمن هذا الاتفاق تحديدا لما يكون لهيئة التحكيم الفصل فيه حصرا، وأن يكون طرفه المعبر عن إرادة جهة الإدارة –متى كان الاتفاق بمناسبة نزاع متعلق بعقد إداري– هو من أولاه المشع الاختصاص بالتعبير عن إرادتها في هذا الخصوص على وفق الفقرة الثانية من المادة (1) من قانون التحكيم المشار إليه، والتي قصرت ذلك على الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، بحيث يباشر كل منهم إبرام العقد دون غيره -أصالة أو تفويضا-؛ لفقدان الأهلية القانونية بالنسبة لهؤلاء، وثبوتها قصرا وحصرا لأولئك المذكورين.
وحيث إن من مؤديات نص الفقرة الثانية المنوه عنها وما تضمنته في عجزها من حظر التفويض في ذلك الاختصاص الموسد للوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، شمول هذا الحظر لأية موافقة على الالتجاء إلى التحكيم –أيا كانت طبيعتها-؛ بحسبانها تجسد تعبيرا عن الإرادة في هذا الشأن، بما تستوي معه في ذلك الموافقة من حيث المبدأ أو الموافقة على اتفاق (مشارطة) التحكيم الممثل عقدا ينحسر بموجبه اختصاص القضاء، كما ينحسر أي اختصاص لهيئة التحكيم بالفصل في غير ما خولها الاتفاق الفصل فيه، لاسيما وأن القول بعدم امتداد ذلك الحظر إلى الموافقة على الاتفاق بالتوقيع عليه اكتفاء بموافقة مبدئية من الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة على الالتجاء إلى التحكيم، يفرغ الحظر من مضمونه الحقيقي ويحيل مقصود المشرع منه هباء؛ ذلك أن مما يجافي المنطق القانوني اختزال ما قننه المشرع بموجب الفقرة الثانية المشار إليها من حظر التفويض في ذلك الاختصاص في الموافقة من حيث المبدأ، دون الموافقة على الاتفاق نفسه، والذي يتحدد على أساس ما يتضمنه اختصاص هيئة التحكيم ونطاق ما تختص بالفصل فيه، خاصة أن مصطلح (اتفاق التحكيم) بمقصوده المحدد من المشرع هو اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات”، وما تطلبه لانعقاده على وفق المادة (12) المشار إليها، بأن يكون مكتوبا يتضمنه محرر موقع من طرفيه، أو تتضمنه وسائل الاتصال المكتوبة المتبادلة فيما بينهما -ولا ريب الموقعة من كل منهما– يستحيل قصره (أي قصر هذا المصطلح) على الموافقة المبدئية على ولوج طريق التحكيم لفض ما نشأ فعلا من نزاع، إذ لا يكون هناك حالتئذ اتفاق تحكيم مستوف أركانه وشروطه.
وحيث إن القاعدة المستقرة قانونا أنه إذا انعدم ركن من أركان العقد كان باطلا، وأن مثل انعدام الركن في ذلك اختلال شرطه، فإنه ترتيبا على ذلك وعلى جميع ما سلف ذكره من أحكام، يكون اتفاق (مشارطة) التحكيم باطلا إذا تم التوقيع عليه (الموافقة) ممن لا أهليه قانونية له للقيام بذلك؛ بحسبان أن الأهلية القانونية في شأن إمضاء اتفاق التحكيم غير ثابتة إلا للوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة، ويندرج تحت هذه الحالة من حالات البطلان توقيع الاتفاق من غير من ذكروا بناء على تفويض من أي منهم في ذلك الاختصاص المقصور عليهم قانونا، وكذلك في حالة ما إذا جاء الاتفاق غير مستوف ركن المحل المتمثل في المسائل التي سيتم حسم الخلاف بشأنها بطريق التحكيم، وكذا إذا ما جاء توقيع الوزير أو غيره ممن ذكروا آنفا على محرر لا يمكن تكييفه حقيقة بأنه اتفاق (مشارطة) تحكيم؛ لفقدانه قوام مثل هذا الاتفاق، أركانا أو شروطا، وأيضا إذا كان التوقيع ممثلا موافقة مبدئية على ولوج طريق التحكيم لحسم النزاع دون التوقيع على اتفاق التحكيم نفسه ممن خولهم المشرع ذلك، سواء أفرغ الاتفاق فى محرر تضمن مسائل التحكيم أو تضمن ذلك الاتفاق ما تم تبادله بين جهة الإدارة والطرف الآخر (طرف العلاقة القانونية الأصيلة) من وسائل الاتصال المكتوبة.
وحيث إن المشرع إذ استلزم بموجب الفقرة الثانية من المادة (1) من قانون التحكيم المشار إليه أن يكون إمضاء اتفاق التحكيم بالموافقة عليه ممن أولاهم أهلية ذلك، دون إجازته التفويض فيما خولوا إياه، لمنبئ عن خطورة مثل هذا الاتفاق الذي بموجبه ينقل النزاع من ولاية قاضيه الطبيعي، ويمنعه من سماع الدعوى بشأنه، ويخول هيئة التحكيم الاختصاص بالفصل فيه بحكم يحوز حجية الأمر المقضي، ويكون واجب النفاذ على وفق حكم المادة (55) من هذا القانون، وإنه نظرا للخطورة المنوه عنها حال اتصال اتفاق التحكيم بعقد إداري متعلق بتسيير مرفق عام تطبق في شأنه أحكام القانون العام، وتكون نصوصه -بحسبانها شريعة العاقدين- الحاكمة للعلاقة فيما بينهما، بما تنتظمه من حقوق والتزامات عقدية، والمدعى عدم تنفيذ أحد طرفيها لما هو ملقى على عاتقه بموجب هذا العقد، أوجب المشرع أن يكون اتفاق (مشارطة) التحكيم على وفق ما سبق بيانه بموافقة الوزير المختص دون غيره متى كان هو المختص بإبرامه؛ بحسبانه هو الأقدر على تقدير مراعاة المصلحة العامة عند النظر في أن يكون الفصل في النزاع الناشئ عن عقد إداري بطريق التحكيم بما يرتبه من النأي بالنزاع عن قاضي المنازعات الإدارية الطبيعي (مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري)، وعقد الاختصاص بالفصل فيه لهيئة تحكيم، وهو ما يفصح عن أن تلك القاعدة المتعلقة بإبرام اتفاق التحكيم ووجوب مباشرة ذلك بواسطة الوزير المختص وعدم جواز تفويض غيره في التوقيع (الموافقة) عليه هي من تلك القواعد المتعلقة بالنظام العام التي يتعين مراعاتها والالتزام بها من الجميع، سواء في ذلك الجهة الإدارية أو المتعاقد معها، مما تغدو معه مخالفتها على أي وجه مرتبة بطلان الاتفاق جزاء وفاقا مع طبيعة هذه القاعدة ومرتبتها بين القواعد القانونية الحاكمة للتعاقد.
وحيث إنه ترتيبا على ما تقدم جميعه فإنه تجب موافقة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة على اتفاق التحكيم، بما مؤداه أنه يلزم لقيام وصحة هذا الاتفاق (مشارطة التحكيم) أن يكون موقعا من أي ممن ذكروا على وفق حكم القانون، دون أن تغني عن ذلك الموافقة المبدئية على الالتجاء إلى التحكيم لفض النزاع المثار، وكذا دون جواز التفويض في التوقيع على الاتفاق، ويترتب على مخالفة ذلك بطلان اتفاق التحكيم بطلانا مطلقا؛ لمخالفة قاعدة من النظام العام.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة:
(أولا) بوجوب توقيع الوزير المختص أو من يتولى اختصاصاته بالنسبة للأشخاص الاعتبارية العامة على اتفاق (مشارطة) التحكيم، دون غناء عن ذلك بموافقتهم المبدئية على الالتجاء إلى التحكيم لفض النزاع المثار.
(ثانيا) ببطلان اتفاق التحكيم بطلانا مطلقا عند توقيعه من غير من وسد إليهم المشرع اختصاص الموافقة عليه، وإعادة الطعن للدائرة المختصة للفصل فيه في ضوء ما تقدم.

اترك تعليقاً