الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية
وفلسفة التشريع فى الحد من مداه
بقلم
المستشار / ماهر البحيرى
نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا
صدر دستور جمهورية مصر العربية فى سبتمبر 1971، وقد نص فى المادة 174 منه على أن المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستلقة قائماً بذاتها، وحدد لها اختصاصاً أصيلاً – دون غيرها – هو الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، وعهد إلى القانون بمهمة تنظيم ما يترتب على الحكم بعدم الدستورية من آثار (المادة 178). وقد صدر قانون المحكمة الدستورية العليا بالقانون رقم 48 لسنة 1979 مؤكداً أن المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها وأن اختصاصها الأصيل هو الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح إلى جانب اختصاصاتها الأخرى.
وكان نص المادة 49 منه – قبل التعديل – على أن “أحكام المحكمة فى الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة”. وتنشر الأحكام والقرارات المشار إليها فى الفقرة السابقة فى الجريدة الرسمية وبغير مصروفات خلال خمسة عشر يوماً على الأكثر من تاريخ صدورها. ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالى لنشر الحكم، فإذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائى تعتبر الأحكام التى صدرت بالإدانة استناداً إلى ذلك النص كأن لم تكن….”.
الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية:
الطبيعة الكاشفة:
الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا – كغيرها من الأحكام – ذات طبيعة كاشفة، فهى لا تستحدث جديداً ولا تنشئ مركزاً أو وضعاً لم يكن موجوداً من قبل، وإنما تكشف عن حكم الدستور فى النص المطعون عليه والمعروض عليها لبيان مدى مطابقته للدستور، وما تنتهى إليه يكون أمراً ملازماً للنص منذ صدوره، فإذا كان هذا النص قد جاء موافقاً للدستور، وفى حدوده المقررة شكلاً وموضوعاً فتتأكد للنص شرعيته الدستورية، ويستمر نفاذه.
أما إذا كان متعارضاً مع الدستور فينسلخ عنه وصفه وتنعدم قيمته بأثر ينسحب إلى يوم صدوره، بمعنى أن النص الذى يقضى بعدم دستوريته يعتبر غير صالح للتطبيق من اليوم التالى لنشر الحكم، ولا يقتصر عدم التطبيق على الوقائع والمراكز القانونية التى تتكون بعد نشر الحكم بعدم الدستورية، وإنما يمتد ذلك إلى ما حدث من وقائع ونشأ من مراكز قانونية قبل الحكم فعيب عدم الدستورية عيب مصاحب لنشوء النص التشريعى أو اللائحة وحكم المحكمة الدستورية كاشف عن هذا العيب سواء أكان النص جنائياً أو غير جنائى.
المنطق القانونى:
الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية أمر يفرضه المنطق القانونى فالمشرع حين أجاز فى المادة 29 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 إثارة المسألة الدستورية أثناء نظر إحدى الدعاوى أمام أى من جهات القضاء إما من تلقاء نفسها أو بطريقة الدفع من أحد الخصوم وأوجبنا على الجهة القضائية.
عند الشك فى عدم الدستورية. وقف الدعوى أو تأجيلها انتظاراً لحكم المحكمة الدستورية العليا بالفصل فى المسألة المثارة، إنما كان يبغى بذلك تحقيق فائدة للخصم فى المنازعات الموضوعية التى أثير فيها الدفع الدستورى فيما لو قضى بعدم الدستورية، وهى منازعات تدور كلها – بطبيعة الحال – حول علاقات وأوضاع سابقة بالضرورة على الحكم بعدم الدستورية فإذا لم يكن لهذا الحكم أثر رجعى لأصبح لزاماً على قاضى الموضوع الذى أرجأ تطبيق القانون حين ساوره الشك فى عدم دستوريته، أن يطبق ذات القانون بعد القضاء بعدم دستوريته، مما يأباه المنطق القانونى السليم ويتنافى مع الغرض المرتجى من الدفع بعدم الدستورية، ولا يحقق لمبدى الدفع أية فائدة عملية.
حق التقاضى:
الغاية النهائية التى يتوخاها الحق فى التقاضى الذى يكفله الدستور بالمادة 68 تتمثل فى الترضية القضائية التى يناضل المتقاضون من أجل الحصول عليها لجبر الأضرار التى أصابتهم من جراء العدوان على حقوق يطلبونها فالخصومة القضائية لا يقيمها ذوو الشأن فيها للدفاع عن مصالح عميقة نظرية فى طبيعتها وخصائصها، وإنما غايتها اقتضاء منفعة يقرها، وبها تتحقق للخصومة القضائية جوانبها العملية فلا تعمل فى فراغ لما كان ذلك وكان إعمال الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية هو الذى يحقق لمبدى الدفع الفائدة العملية من دفعه ودعواه على نحو ما سبق بيانه، فإنه بذلك يكون محققاً للخصومة القضائية – فى المسألة الدستورية – جوانبها العملية فلا تعمل فى فراغ والقول بغير ذلك يجعل حق التقاضى غير مجد ومجرداً من مضمونه.
الحجية المطلقة:
النص فى المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا على عدم جواز تطبيق النص المقضى بعدم دستوريته من اليوم التالى لنشر الحكم بعدم الدستورية هو خطاب تشريعى موجه لجميع سلطات الدولة والأحكام الصادرة فى الدعاوى الدستورية – وهى بطبيعتها دعاوى عينية توجه الخصومة فيها إلى النصوص التشريعية المطعون فيها بعيب دستورى – يكون لها حجية مطلقة بحيث لا يقتصر أثرها على الخصوم فى الدعوى التى صدرت فيها، وإنما ينصرف هذا الأثر إلى الكافة وتلتزم به جميع سلطات الدولة ومنها المحاكم وبالتالى قاضى الموضوع ومن ثم فعليه أن يمتنع عن إنزال حكم القانون المقضى بعدم دستوريته على المنازعات المطروحة عليه من قبل، وذلك يكون قد قصد المشرع فى تقرير الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية، ويؤيد انسحابه على ما سبق من علاقات وأوضاع نشأت فى ظل القانون الذى قضى بعدم دستوريته.
المذكرة الإيضاحية:
أفصح المشرع عن قصده فى تقرير الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية فيما أورده تعليقاً على المادة 49- قبل التعديل- حيث جاء فيها أن القانون “تناول أثر الحكم بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة, فنص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالى لنشر الحكم, وهو نص ورد فى بعض القوانين المقارنة واستقر الفقه والقضاء على أن مؤداه هو عدم تطبيق النص ليس فى المستقبل فحسب إنما بالنسبة إلى الوقائع والعلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص”.
مسلك المحكمة:
المفهوم السابق لأثر الحكم بعدم الدستورية, هو ما أخذت به المحكمة الدستورية العليا فى العديد من أحكامها, صراحة بإيراده فى مدونات بعض الأحكام, وضمنا حيث أعملت هذا الأثر ورتبت عليه نتائجه فقضت بأن إلغاء القانون المطعون فيه أو تعديله لا يحول دون قبول الطعن بعدم دستوريته من طبق عليه خلال فترة نفاذه حيث تتوفر له مصلحة شخصية فى الطعن بعدم دستوريته. وقد جاءت المذكرة الإيضاحية للقرار بقانون 168 لسنة 1998 الذى صدر معدلا للمادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا. مؤكدة لما استقر عليه قضاء المحكمة حيث ورد بها “وقد نرى قضاء المحكمة الدستورية العليا- فى مجال تفسيرها لنص المادة 49 من قانونها, على أن الحكم الذى تصدره بعدم دستورية نص تشريعى يكون له أثر يرتد إلى الماضى برجعية تحكم الروابط السابقة على صدور الحكم كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة “وهذا ما دفع المشرع إلى التعديل الذى أراد به أن يحد من النتائج السلبية أحيانا- لإعمال الأثر الرجعى على إطلاقه على ما سيجئ بيانه.
حدود الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية قبل القرار بقانون 168 لسنة 1998:
النصوص الجنائية:
يبلغ الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية مداه إذا تعلق بنص جنائى إلى حد إسقاط حجية الأمر المقضى حيث يترتب على الحكم بعدم دستورية نص جنائى أن جميع الأحكام التى صدرت بالإدانة استنادا إلى النص المحكوم بعدم دستوريته تعتبر كأن لم يكن, ولو كانت باتة, وهو ما نصت عليه المادة 49 فى فقرتها الرابعة, وأوجبت على رئيس هيئة المفوضين بتبليغ النائب العام بالحكم فور النطق به لإجراء مقتضاه.
المراكز القانونية المستقرة بحكم بات:
أوردت المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية العليا بالقانون رقم 48 لسنة 1979 فى تعليقها على المادة 49 قيدا مهما على الأثر الرجعى للحكم بعدم دستورية نص غير جنائى, يتمثل فى الحقوق والمراكز التى استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضى أو بانقضاء مدة تقادم, حيث ورد بها, ويستثنى من هذا الأثر الرجعى الحقوق والمراكز التى تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضى أو بانقضاء مدة تقادم”.
وبالرغم من عدم النص صراحة فى القانون على هذا القيد, إلا أن أحكام المحكمة الدستورية العليا قد استقرت على أن قضاء المحكمة المبطل لنص غير جنائى يظل أثره الرجعى جاريا ومنسحبا على الأوضاع والعلائق التى اتصل بها مؤثرا فيها حتى ما كان منها سابقا على نشرة فى الجريدة الرسمية, ما لم تكن الحقوق والمراكز التى ترتبط بها قد استقر أمرها بناء على حكم قضائى توافر فيه شرطان
أولهما: أن يكون باتا وذلك باستنفاده لطرق الطعن جميعا.
ثانيهما: أن يكون صادر قبل قضاء المحكمة الدستورية العليا ومحمولا على النصوص القانونية عينها التى قضى ببطلانها وقد توافر قضاء النقض أيضا على ذلك.
المحكمة تحد من الأثر الرجعى لحكمها بغير نص:
قضت المحكمة الدستورية العليا فى الدعوى رقم 37 لسنة 9 قضائية دستورية بتاريخ 19/5/1990 بعدم دستورية المادة الخامسة مكررا من القانون رقم 38 لسنة 1972 فى شان مجلس الشعب المعدل بالقانون رقم 188 لسنة 1986 فيما تضمنته من النص على أن يكون لكل دائرة عضو واحد يتم انتخابه عن طريق الانتخاب الفردى ويكون انتخاب باقى الأعضاء الممثلين للدائرة عن طريق الانتخاب بالقوائم الحزبية”. وكان مقتضى ذلك ولازمه إعمالا للأثر الرجعى للحكم بعدم دستورية أن مجلس الشعب الذى تم انتخابه استنادا إلى ذلك النص يضحى باطلا منذ تكوينه. وبالتالى كان على المحكمة وبكل أمانة الإحساس بالمسئولية أن تواجه ما يترتب على ذلك من نتائج للحد من آثار تلك الرجعية فأعملت حسها القانونى والوطنى تحقيقا للموازنه بين متطلبات الشريعة الدستورية واعتبارات استقرار المراكز القانونية فى المجتمع, وتصدت لحكم ما صدر عن ذلك المجلس من قوانين وقرارات وما اتخذه من إجراءات خلال الفترة السابقة, وحتى تاريخ نشر الحكم فى الجريدة الرسمية. فلم تسقطها, وأقرت صحتها فأوردت فى حكمها أنها تظل قائمة على أصلها من الصحة, ومن ثم تبقى صحيحة ونافذة ما لم يتقرر إلغاؤها أو تعديلها من الجهة المختصة دستوريا أو يقضى بعدم دستورية نصوصها إن كان لذلك ثمة وجه ما بنى عليه هذا الحكم”, وتفادت بذلك- وبغير نص فى القانون- ما كان يمكن أن يترتب على إعمال الأثر الرجعى لحكمها على إطلاقه من فراغ تشريعى قد يؤدى إلى انهيار دستورى وقد تكرر ذلك منها فى الدعوى رقم 11 لسنة 13 قضائية دستورية بتاريخ 8/7/2000.
القرار بقانون 168 لسنة 1998 واستثناءات الأثر الرجعى:
المذكرة الإيضاحية وحقيقة التعديل: ثبت من التجربة العملية أن إعمال الأثر الرجعى للحكم بعدم الدستورية- فى غير المسائل الجنائية- على إطلاقه قد يؤدى فى بعض الأحيان إلى نتائج سلبية ومشكلات عملية نتيجة لاستطالة الزمن الذى ظل النص مطبقا خلاله قبل الحكم بعدم دستوريته. فقد يؤدى إعمال الأثر الرجعى على إطلاقه إلى إحداث هزات اجتماعية واقتصادية مفاجئة نتيجة الإخلال بالمراكز القانونية المستقرة أو تحميل الدولة أعباء مالية تنوء بها خزانتها نتيجة التزامها برد أموال تم تحصيلها سنوات عديدة استنادا إلى النصوص المقضى بعدم دستوريته, وبعد أ تكون الدولة قد اعتمدت عليها فى تمويل نفقاتها وضبط موازنتها.
إلى ذلك من الآثار السلبية التى قد تمس مصالح المواطنين فى مجموعهم, وتعوق الدولة فى تحقيق مهامها التنموية والنهوض بالخدمات والمرافق العامة نتيجة الخلل والاضطراب فى ميزانيتها. وعلاجا لتلك المشكلات, وتحقيقا للموازنة بين متطلبات الشريعة الدستورية واعتبارات استقرار المراكز القانونية فى المجتمع, والحفاظ على أمنه اجتماعيا واقتصاديا. فقد راى المشرع أن يتدخل لتعديل نص الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 بما يكفل- حسبما جاء بالمذكرة الإيضاحية- تحقيق الأغراض الآتيه:
أولا: تخويل المحكمة سلطة تقرير أثر رجعى لحكمها على ضوء الظروف الخاصة التى تتصل ببعض الدعاوى الدستورية التى تنظرها بمراعاة العناصر المحيطة بها وقدر الخطورة التى تلازمها.
ثانيا: تقرير أثر مباشر للحكم بنص القانون إذا كان متعلقا بعدم دستورية نص ضريبى.
وصدر القرار بقانون 168 لسنة 1998 ونشر فى الجريدة الرسمية بعددها رقم 28 مكرر فى 11 يوليو 1998 ونص فى مادته الأولى على أن يستبدل بنص الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 النص الآتى: “ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص فى قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالى لنشر الحكم ما لم يحدد الحكم لذلك تاريخا آخر (أسبق) على أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبى لا يكون له فى جميع الأحوال إلا أثر مباشر. وذلك دون إخلال باستفادة المدعى من الحكم الصادر بعدم دستورية هذا النص “وقد وردت كلمة (أسبق) بعد عبارة “تاريخا آخر” على سبيل الخطأ المادى الذى تم تصحيحه بالاستدراك الذى صدر من رئاسة مجلس الوزراء ونشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 12/7/1998 فأصبحت العبارة الصحيحة الواردة بالنص هى (ما لم يحدد الحكم لذلك تاريخا آخر) ويذكر هنا ان اقتران العبارة بكلمة “أسبق” قد يؤدى إلى مفهوم مخالف تماما للفهم الصحيح فقد يفهم أن الأصل هو الأثر الفورى, وللمحكمة أن تجعل لحكمها أثرا رجعيا بتحديدها تاريخا أسبق لإعمال أثر حكمها. وهو ما يخالف الفهم الصحيح الذى استقر عليه قضاء المحكمة الدستورية وأكدت المذكرة الإيضاحية للقرار بقانون 168 لسنة 98 ذاته. وللأسف أن بعض رجال القانون لم يفطنوا إلى هذا الاستدراك المشار إليه وظل الأمر عندهم مقترنا بكلمة “أسبق” فكان فهمهم للنص وما رتبوه عليه مخالفا لصحيح القانون.
استثناءات الأثر الرجعى:
كان مسلك المشرع فى علاج المشكلات المترتبة على إطلاق الأثر الرجعى محصورا فى:
أولا: أكد المفهوم الصحيح لأثر الحكم بعدم الدستورية والذى سبق أن استقر عليه قضاء المحكمة وهو الأثر الرجعى, ذلك أن عبارة النص جاءت فى مقدمتها كما هى دون ثمة تعديل, ومن ثم يجرى بشأنها ما قيل تفسيرا للنص السابق وما ورد من تعليق عليه من مذكرته الإيضاحية. فضلا عن تقرير استثناءات لهذا الأصل يؤكد بالضرورة صحة هذا الفهم.
ثانيا: استحدث التعديل أمرين: كلاهما يتغير استثناء من الأصل وهو الأثر الرجعى, الأمر الأول, ترك تحديده للمحكمة حيث رخص لها أن تحدد فى حكمها تاريخا آخر لبدء إعمال أثر حكمها, والأمر الثانى حدده حصرا فى النصوص الضريبية, فلم يجعل لها إلا أثرا مباشرا فى جميع الأحوال.
للمحكمة أن تحدد تاريخا آخر:
الحكم الذى يصدر من المحكمة بعدم دستورية نص تشريعى يكون له أثر يمتد إلى تاريخ صدور هذا النص. أى أن أثره يمتد برجعية تحكم الروابط السابقة على صدوره خلال الفترة ما بين بدء سريان النص المحكوم بعدم دستوريته وتاريخ صدور ذلك الحكم. وقد رأى المشرع فى سبيل وضع حل للمشكلات التى يمكن أن تترتب على إطلاقه هذا الأثر أن يترك للمحكمة حرية الحد من مدى هذه الرجعية على ضوء الظروف الخاصة بكل دعوى تنظرها بمراعاة العناصر المحيطة بها وقدر الخطورة التى تلازمها اعتمادا منه على أن أعضاء المحكمة الدستورية باعتبارهم أفراد فى الجماعة وجزءا من نسيج المجتمع وبنيانه وما لهم من حس وطنى قضائى قادرين على تحقيق الموازنة المرجوة بين متطلبات الشريعة الدستورية واعتبارات استقرار المراكز القانونية فى المجتمع والحفاظ على أمنه الاجتماعى والاقتصادى. ومن ثم فقد أصبح للمحكمة بموجب هذا التعديل الحق فى أن تحدد لبدء إعمال أثر حكمها تاريخا آخر غير تاريخ صدور النص المقضى بعدم دستوريته. سواء كان هذا التاريخ سابقا على تاريخ صدور الحكم بالحد من رجعيته هذه لفترة معينة من الزمن قد تطول أو تقصر حسبما تراه ملائما, أو يحجب عنه تلك الرجعية تماما فيجعل الحكم فوريا مباشرا, أو تاريخا لاحقا لتاريخ صدور الحكم. هذا وقد استعملت المحكمة هذه الرخصة بالفعل فى حكمها الصادر بتاريخ 3/11/2002 فى الدعوى رقم 70 لسنة 18 قضائية دستورية, وذلك عندما استشعرت أن الحكم بعدم دستورية نص فى القانون 49 لسنة 1977 بشأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر يؤدى إلى إحداث خلخلة اجتماعية واقتصادية مفاجئة تصيب فئات عريضة من القاطنين بوحدات سكنية تساندوا فى إقامتهم بها إلى حكم هذا النص قبل القضاء بعدم دستوريته وهى خلخله تنال من الأسرة فى أهم مقومات وجودها المادى, وهو المأوى الذى يحميها وتستظل به, بما يترتب عليه من آثار اجتماعية تهز مبدأ التضامن الاجتماعى الذى يقوم عليه المجتمع وفقا لما نصت عليه المادة السابعة من الدستور. فقد حجبت عن الحكم أثره الرجعى تماما, وجعلت له أثرا فوريا مباشرا فحددت لإعمال أثر الحكم اليوم التالى لنشره.
النصوص الضريبية:
رأى المشرع- كما أفصح عن ذلك بمذكرته الإيضاحية للقرار بقانون 168 لسنة 1998 “أن إبطال المحكمة لضريبة بأثر رجعى مؤداه أن ترد حصيلتها التى أنفقتها- فى مجال تغطية أعبائها- إلى الذين دفعوها من قبل,. مما يعجزها عن مواصلة تنفيذ خططها فى مجال التنمية. أو يعوقها عن تطوير أوضاع مجتمعها, ويحملها على فرض ضرائب جديدة لسد العجز فى موازنتها, وتلك جميعها آثار خطيرة تهدم من خلال حدتها الأوضاع القائمة, وتضطرب بها موازنة الدولة فلا تستقر مواردها على حال “وهذا ما أدى به إلى أن ينص على أن “الحكم بعدم دستورية نص ضريبى لا يكون له فى جميع الأحوال إلا أثر مباشر, مستثنيا بذلك النصوص الضريبية من قاعدة الأثر الرجعى, فلا يكون للحكم الصادر بعدم دستورية نص ضريبى أثر رجعى ومن ثم فإن ما تم تحصيله من ضرائب بناء على النص المقضى بعدم دستوريته يكون صحيحا ولا محل لرده, أما بعد صدور الحكم ونشره فلا يجوز تحصيل الضريبة الملغاة, ولما كان مقتضى إعمال ذلك الحكم- الأثر المباشر- ألا يكون للمدعى فى الدعوى الدستورية الحق فى استرداد ما دفعه من ضرائب استنادا إلى النص المقضى بعدم دستوريته بناء على دعواه, ومن ثم فلا يكون قد حقق لنفسه الفائدة العملية من دفعه ودعواه.
بما يجعل حق التقاضى- فى المسألة الدستورية مجردا من مضمونه. ولذلك فقد استثنى المشرع المدعى فى الدعوى الدستورية, فأبقى عليه مستفيدا من الأثر الرجعى للحكم حتى تتحقق له الفائدة العملية من دعواه, فنص على أن “وذلك دون الإخلال باستفادة المدعى من الحكم الصادر بعدم دستورية هذا النص وقد عبرت المذكرة الإيضاحية عن هذا المسلك بالآتى “وحسما لأى خلاف فى شأن ما إذا كان الأثر المباشر للأحكام الصادرة ببطلان نص ضريبى ينسحب إلى ذى المصلحة فى الخصومة الدستورية أم ينحسر عنه, فقد نص المشرع على أنه سواء أثيرت المسألة الدستورية عن طريق الدفع أو عن طريق الإحالة أو التصدى, فإن الفائدة العملية للخصومة الدستورية يتعين أن يجنبها كل ذى شأن فيها من أطرافها ضمانا لفاعلية حق التقاضى. ولأن الترضية القضائية هى الغاية النهائية لكل خصومة قضائية. والمشرع بذلك قد يكون قد مارس حقه فى المغايرة بين مراكز اختلفت أسس قيامها, واتخذ ما يراه كفيلا بدرء أخطار تهدد مقومات المجتمع الاقتصادية, وقد أشارت المحكمة إلى ذلك فى حكمها الذى قضى برفض الدعوى بعدم دستورية ذلك النص الصادر فى الدعوى رقم 76 لسنة 22 ق دستورية بتاريخ 7/7/2002 حيث ورد به (لما كان ذلك, وكان نص الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا بعد تعديلها, جاء قاطعا فى أن الحكم بعدم دستورية أى نص ضريبى يرتب أثرا مباشرا فقط, إلا أن النص المذكور قرن ذلك بعدم الإخلال باستفادة المدعى من الحكم الصادر بهذا الشأن, بما مؤداه إطلاق صفة المدعى لتشمل كل ما اتصلت دعواه مستوفية أوضاعها القانونية بالمحكمة الدستورية العليا وقت صدور الحكم بعدم دستورية ذلك النص. وهو الإطلاق الذى يعصم النص من عدم الدستورية, وبذلك يكون المشرع قد مارس حقه فى المغايرة بين مراكز اختلفت أسس قيامها, واتخذ ما يراه كفيلا بدرء أخطار تهدد مقومات المجتمع الاقتصادية, وإذا كان الدستور يؤسس النظام الضريبى على العدالة الاجتماعية وفقا للمادة 38, إلا أن هذه العدالة تتوخى بمضمونها التعبير عن القيم والمصالح الاجتماعية السائدة فى مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة, ومن ثم تتباين معانيها ومراميها تبعا لتغيير الظروف والأوضاع, ويتعين بالتالى أن تتوازن علائق الأفراد ومصالحهم, بمصالح المجتمع فى مجموعة, توصلا إلى عدالة حقيقية تتفاعل مع الواقع وتتجلى قوة دافعة لتقدمه, وإذا كان العدل مهيمنا على الضريبة التى توافرت لها قوالبها الشكلية وأسسها الموضوعية, فإن ذلك يشكل ضمانة توافر الحماية القانونية التى كفلها الدستور للمواطنين جميعا. وينبنى على ما تقدم, أن ما اتخذه المشرع من تعديل للفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا كان سبيلا للحفاظ على مصالح الجماعة ومن ثم تنتفى عنه قالة مخالفة الدستور.
الخلاصة:
خلاصة ما تقدم أن الحكم الصادر بعدم دستورية نص تشريعى يكون له أثر رجعى, ويصل هذا الأثر لأقصى مداه إلى حد إسقاط حجية الأمر المقضى عندما يكون النص المقضى بعدم دستوريته نصا جنائيا ولا يكون للحكم هذا الأثر الرجعى, وإنما يكون أثره فوريا إذا كان النص المقضى بعدم دستوريته نصا ضريبيا وبين هذا وذاك, فالأصل هو الأثر الرجعى الذى يمتد إلى تاريخ العمل بالنص المقضى بعدم دستوريته ما لم يحدد الحكم تاريخا آخر لإعمال أثره.
وقد يصل هذا التحديد إلى حد حجب الأثر الرجعى تماما ليكون للحكم أثر فورى مباشر.
والقول بغير ما تقدم لا يكون إلا فهما غير صحيح للقانون أو مغالطة يقصد بها التنصل من تنفيذ الحكم الصادر بعدم الدستورية لسبب أو لآخر.